للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمام هذه الهجمة البدعية الخطرة من القدرية، وغيرهم، كان السلف منتبهين إلى مثل هذه الحيل، وبفضل الله – تعالى – استطاع سلف الأمة الصالح الكشف عن بدع واصل، وعمرو بن عبيد، وإدخالهم في دائرة المقت؛ بسبب بدعتهم، وخروجهم عن منهج الأمة الحق، وتعتبر عملية تصنيف أشخاص المبتدعة هي الخطوة الأساسية الأولى التي ينبني عليها موقف الأمة، وعلمائها، فينظر إلى هؤلاء نظرة شك، وارتياب في أقوالهم، وأفعالهم، وجميع ما يصدر عنهم. وإن لفظ البدع، والابتداع، يعتبر مصطلحاً صادقاً، ينطبق تمام الانطباق على هذه المرحلة؛ لقربهم من عهد النقاء، والصفاء؛ عهد النبوة المباركة، وعهد الصحابة الكرام، وعهد التابعين – عليهم رحمة الله -، ويكفي إطلاق هذا اللفظ على شخص، أو فرقة؛ ليضعها في مقام المخالف لهذه العهود المباركة، النقية في عقيدتها، وشريعتها، وسلوكياتها، وهذا الابتداع الذي جاء به المبتدعة هو اختراع دين جديد، وعدم الرضا بما أكمله الله – تعالى -؛ في هذا يقول الإمام مالك "ت ١٧٩هـ" – رحمه الله -: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: ٣]، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً" (١).

يضاف إلى ذلك وضع تسمية خاصة لأهل البدعة، تميزهم عن جمهور الأمة، الذين يدينون بالعقيدة الصحيحة؛ عقيدة السلف الصالح؛ ولذلك أطلقوا عليهم تسميات مثل الخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والمرجئة، والمشبهة، والشيعة، وهذا التصنيف لأهل الابتداع يمثل نوعاً من التحذير للأمة من الثقة بأصحابها، أو التعامل معهم، ويمنعهم من الدعوة لمبتدعهم في وسط جمهور الأمة، وقد توجهت جهود علماء السلف منذ بروز بدعة المعتزلة إلى اعتبارهم من المبتدعة؛ ولذلك أصابوا كبد الحقيقة عندما صنفوها من أحد أصناف القدرية.

وقد تعرضت شخصية الرجلين: واصل، وعمرو، للنقد الشديد، وإن كان النقد الأكبر موجها إلى عمرو بن عبيد، الذي عاش ثلاثة عشر عاماً بعد واصل، وقد كثرت آراؤه الشاذة، والقبيحة، وقد أتاح امتداد عمره بهذا الشكل لعلماء عصره التعرف على حقيقة معتقده، وتقشفه، وعبادته المزعومة، وسوف نعرض لمواقف أهل السنة من هذه الدعوة، ومن رجالها، وهو نموذج يعبر تعبيرا صادقاً عن قوة علماء السلف، وسيادة منهجهم على الأمة، واندحار المبتدعة أمامهم، وأن هذه الصور التي سنعرضها تبين لنا تهافت أرباب البدع، واشتهارهم أمام عامة الناس بالبدعة، والانحراف، وهذا هو التوجيه الصحيح لمعرفة عامة أهل البصرة بأرباب البدع، لا أن هؤلاء العامة كانوا يدينون بهذه الآراء البدعية، كما روج لذلك المستشرقون، ومن تابعهم من الكتاب في العصر الحديث، وسوف نعرض، فيما يلي، لمواقف علماء السلف، والمعتزلة.


(١) الشاطبي، ((الاعتصام))، (١/ ٩)، نشر محمد رشيد رضا، المكتبة التجارية، مصر.

<<  <  ج: ص:  >  >>