للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من تأمل هذا الكلام أدرك أن القرضاوي هنا يعي ما يقول، وأن كلامه جار على تعليمات تلقاها من مثل هذه التصريحات الغريبة التي تنافي مبدأ الولاء والبراء في الإسلام. وكيف يقال: إن ذم اليهود في القرآن محصور في الحيثية الاقتصادية والقانونية مع قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: ٣٠ - ٣١].والحق الذي لا ريب فيه أن المعتزلة – وإن رحلت بأعلامها ومشاهيرها – فقد بقي الاعتزال بكل معانيه وصوره، بقي الاعتزال تحت فرق تسمت بأسماء أخرى، وبقي بمناهجه وأصوله تحت أشخاص ينتسبون إلى السنة بألسنتهم، يقول محمد أبو زهرة – وهو يقر بوجود المعتزلة منشوراً بين المفكرين-: "نعم إن المسألة محصت ودرست بعد ذلك من الأخلاف، ورأى كثيرون من مفكري الإسلام رأي المعتزلة، ولكن لم يكن ذلك نتيجة للاضطهاد، بل كان نتيجة لمناظرات العلماء، وما نشره المعتزلة من رسائل، ولو ترك الأمر على رسله من غير اضطهاد لانتشرت فكرة المعتزلة أكثر مما انتشرت، وما لوث تاريخهم بذلك الاضطهاد" (١) هنا نلاحظ أنا أبا زهرة يرى أن اللوثة الوحيدة التي لحقت بفكر المعتزلة وحدت من انتشاره هي طريقتهم في نشر أفكارهم بالقوة، وأنه لولا ذلك الأسلوب لانتشر أكثر، ومعنى الانتشار أكثر أن يكتسح هذا الفكر جميع أقطار العالم الإسلامي، وإلا فقد انتشر فكرهم انتشاراً فاحشاً، ولنسمع ما يقوله جمال الدين القاسمي في هذا الموضوع: "هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالاً، وأكثرها تابعاً، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية، والشامية، والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن؛ فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول – كما قاله العلامة المقبلي في (العلم الشامخ) (٢) – وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين، وبهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة فضلاً عن أن يظن أنهم انقرضوا، وأن لا فائدة في المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان، ومذاهب أهلها" (٣).

هذا ما يتعلق بانتشارهم ضمن الفرق البدعية الأخرى كالزيدية والرافضة، وغيرهم، وأما الجانب الآخر والخطير فهو انتشار فكرهم داخل المعسكر السني بواسطة أقوام مفتونين بالمنهج العقلاني، ولنأخذ مثاليين من هذا الصنف علماً بأنهم كثيرون في عصرنا حتى قامت معاهد فكرية تتبنى منهج عقلانية المعتزلة في التعامل مع النصوص الشرعية.

الأول: الشيخ محمد الغزالي الذي يعتمد على المنهج العقلاني في أكثر كتبه، ويظهر ذلك أكثر في كتابه الموسوم بـ (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث).


(١) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (١/ ١٥٩).
(٢) انظر ((العلم الشامخ)) (ص ١٢ - ١٣) / بيروت/ دار الحديث ط٢/ ١٤٠٥هـ.
(٣) ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (ص ٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>