للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المقصود: أن فكر هذا الرجل امتداد لفكر المعتزلة من حيث تقديم العقل على كل شيء ممثلاً في موقفه من نصوص القدر وغيرها، فليكن قارئ كتبه – وخصوصاً كتابه (السنة النبوية) – على حذر من السقوط على أم رأسه؛ فإنها مليئة بالبلاوي والطامات، والله المستعان. الثاني: علي مصطفى الغرابي في كتابه (تاريخ الفرق الإسلامية) والغرابي – حسب ما هو مكتوب على طرة كتابه – أستاذ في كلية الشريعة بمكة المكرمة، والكتاب لا يعبر عنوانه عما في داخله؛ لأنه في الحقيقة كتاب في فضائل المعتزلة، ومزايا الاعتزال، ونصيب الفرق الأربع الأخرى المذكورة فيه ضئيل جداً (١).ومن قرأ هذا الكتاب بتأمل لا يأخذه أدنى شك بأن الرجل من المعتزلة – وليس مجرد متعاطف معهم – لما يحتويه من الثناء على المعتزلة والمبالغة في ذلك، ووصم غيرهم بالألقاب، وتبني أصولهم بكل صراحة، وإليك نتفاً من ذلك حتى تقف على الحقيقة بنفسك:- حسن ظنه بالمنهج العقلاني وسوء ظنه بالنصوص الشرعية وقدرتها على بيان الحق وتجليته: يقول الغرابي – تحت عنوان "الحكم على واصل"-: إنه يكفي في حكمنا على واصل أنه رئيس هذه الفرقة العظيمة "فرقة المعتزلة" صاحبة الأبحاث الكلامية، والتي تركت للمسلمين تراثاً فلسفياً له قيمته، والتي فتحت أمام العقيدة الإسلامية طريق البحث المنطقي، مما جعل أصحاب الديانات الأخرى يقفون عن هجوم هذه العقيدة الجديدة، والذين كانوا يريدون أن يثأروا لأنفسهم منها بطريق الجدل الكلامي، فلما رأى منهم المعتزلة هذا الأمر مرنوا على أساليبهم وأتقنوها، وحاربوهم بمثل سلاحهم، ولو وقف الأمر عند الاحتجاج بالقرآن والحديث لما انقطعت غارات المخالفين عن هذا الدين، لأنهم لا يؤمنون بهما" (٢).

قلت: هذه خدعة طالما أثارها العقلانيون، فكأن القرآن الكريم حين نزل كان يخاطب أناساً مؤمنين ولم يخاطب الكفار والدهريين الذين لا يؤمنون بشيء وراء الحس، ويقنع أحبار اليهود حتى أسلم الكثير منهم، إن الهجمات والغزوات الفكرية والشبهات العقدية التي شنها أعداء الإسلام لم تبدأ مع ظهور المعتزلة، بل بدأت مع ظهور الإسلام، وقد دحضها القرآن كلها ولم تكن هناك فلسفة، ولا منطق كلامي، فالقرآن كما أنه خطاب للقلوب والعواطف والأرواح كذلك خطاب للعقول السليمة، وشفاء للمريضة؛ لأن منزله سبحانه هو الخبير بجميع ما كان وما يكون من الأدواء، ولكن الذي يعرف ذلك ويستفيد منه هو المؤمن الحسن الظن بالقرآن، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء: ٨٢] ومن لم يهتد بهدي القرآن والسنة فلا هداية له فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: ٦] لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: ٢١].

كم حكت لنا كتب السنن والتاريخ والسير عن أحوال قوم من الجبابرة الطغاة دخل الإيمان بشاشة قلوبهم بسماع آيات من القرآن الكريم وهذه كتب السير والتواريخ بين أظهرنا لا تخبرنا عن فيلسوف عقلاني واحد أسلم بسبب جدل المعتزلة ومناظراتهم.


(١) حيث تناول الجهمية في (١٨) صفحة، والخوارج في ٢٠ صفحة، والشيعة في ١١ صفحة والمشبهة في ١٣ صفحة، والمعتزلة في ٢٢٣ صفة غالبها إشادة وتمجيد.
(٢) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص ١٠١).

<<  <  ج: ص:  >  >>