للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أوتيت من لدنك حكمة أقلب بها القلوب وأعقل العقول، وأتصرف بها في خواطر النفوس ومنحت منك عزمة أتعتع بها الثوابت وأذل بها شوامخ الصعاب وأصدع بها حل المشاكل وأثبت بها في الحق للحق حتى يرضى الحق، وكنت أظن قدرتي بقدرتك غير محدودة ومكنتي لا مبتوتة ولا مقدورة فإذا أنا من الأيام كل يوم في شأن جديد" ويقول "فصورتك الظاهرة تجلت في قوتي الخيالية وأمتد سلطانها على حسي المشرك وهي رسم الشهامة وشبح الحكمة وهيكل الكمال فإليها ردت جميع محسوساتي وفيها فنيت مجامع مشهوداتي وروح حكمتك التي أحييت بها مواتنا وأنرت بها عقولنا ولطفت بها نفوسنا التي بطنت بها فينا فظهرت في أشخاصنا فكنا أعدادك وأنت الواحد وغيبك وأنت الشاهد ورسمك الفوتوغرافي الذي أقمته في قبلة صلاتي رقيباً على ما أقدم من أعمالي ومسيطراً عليّ ولا انثنيت عن نهاية حتى تطابق في عملي أحكام أرواحك وهي ثلاثة فمضيت على حكمها سعياً في الخير وإعلاء لكلمة الحق وتأييداً لشوكة الحكمة وسلطان الفضيلة ولست في ذلك إلا آله لتنفيذ الرأي المثلث ومالي من ذاتي إرادة حتى ينقلب مربعاً غير أن قواي العالية تخلت عني في مكاتبتي إليك وخلت بيني وبين نفسي التزاماً لحكم أن المعلول لا يعود على علته بالتأثير على أن ما يكون إلى الموالى من رقائم عبده ليس إلا نوعا من التضرع والابتهال لا أحسب فيه ما يكشف خفاء أو يزيد جلاء ومع ذلك فإني لا أتوسل إليك في العفو عما تجده من قلق العبارة وما تراه مما يخالف سنن البلاغة بشفيع أقوى من عجز العقل عن أحداق نظره إليك وإطراق الفكر خشية منك بين يديك، وأي شفيع أقوى من رحمتك بالضعفاء وحنوك لمغلوبي الصديقين"، ويقول أيضاً "أما ما يتعلق بنا فإني على بينة من أمر مولاي وإن كان في قوة بيانه ما يشكك الملائكة في معبودهم والأنبياء في وحيهم ولكن ليس في استطاعته أن يشك نفسه في نفسه ولا أن يقنع عقله إلا على بالمحالات وإن كان في طوعه أن يقنع بها من أراد من الشرقيين والغربيين.

هذا بعض ما ورد في خطاب محمد عبده إلى أستاذه الأفغاني بتاريخ ٥ جمادى الأولى سنة ١٣٠٠هـ وهي عبارات ولا شك خطيرة توجب إعادة النظر في عقيدة الرجل عند من لا تخدعه الأسماء وقد استغرب السيد رشيد رضا نفسه هذه الرسالة من أستاذه حيث قال عند سياقه لها:-"ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين عقب النفي من مصر إلى بيروت وهو أغرب كتبه بل هو الشاذ فيما يصف به أستاذه السيد مما يشبه كلام صوفية الحقائق والقائلين بوحدة الوجود التي كان ينكرها عليهم بالمعنى المشهور عنهم، وفيه من الإغراق والغلو في السيد ما يستغرب صدوره عنه وإن كان من قبيل الشعريات وكذا ما يصف به نفسه بالتبع لأستاذه من الدعوى التي لم تعهد منه البتة" (١) ثم ساق نص الخطاب، ولم يلتزم السيد رشيد رضا الدقة كلها في نقل الرسالة فنراه يحذف بعض العبارات الخطيرة ويضع نقطاً وأحياناً لا يضع حتى النقط ويحاول حيناً أن يلطف من شدة انحراف بعض العبارات بتأويلات متكلفة، أما حذفه بعض العبارات فلعله وضع لنفسه مبرراً لذلك فقال في تقديم الخطاب "ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين".


(١) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (٢/ ٥٩٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>