للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فوصل كل ما دار في هذا الاجتماع إلى المستورد من غير ابن محدوج الذي رجع كئيبا مهتما، فسأل ابن محدوج عن كل هذا فأخبره وقال له: كرهت أن أعلمكم فتظنوا أنه ثقل علي مكانكم. فقال: له المستورد. قد أكرمت المثوى وأحسنت ونحن مرتحلون عنك.

فلما بلغ هذا إلى مسامع الذين في سجن المغيرة قال معاذ بن جوين بن حصين يتحسر:

ألا أيها الشارون قد حان لامرئ ... شرى نفسه لله أن يرتحلا

أقمتم بدار الخاطئين جهالة ... وكل امرئ منكم يصاد ليقتلا

فشدوا على القوم العداة فإنما ... إقامتكم للذبح رأيا مضلالا

فيا ليتني فيكم على ظهر سابح (١) ... شديد القصيري (٢) دارعا (٣) غير أعزلا

وياليتني فيكم أعادي عدوكم ... فيسقيني كأس المنية أولا

يعز علي أن تخافوا وتطردوا ... ولما أجرد في المحلين (٤) منصلا

ولو أنني فيكم وقد قصدوا لكم ... أثرت إذا بين الفريقين قسطلا (٥)

فيا رب جمع قد فللت وغارة ... شهدت وقرن قد تركت مجدلا

في أبيات له يتحسر على ما أصاب الخوارج من محن.

ثم أرسل المستورد إلى أصحابه أنه مكان الاجتماع سورا وعليهم أن يخرجوا متفرقين مستخفين، فاجتمعوا بها ثلاثمائة رجل ثم انتقلوا إلى الصراة.

ولما علم المغيرة بهذا الأمر استشار الناس فيمن يلي حربهم، وكان عنده رؤساء الشيعة، فكل واحد منهم ترجى المغيرة أن يكون هو المتولي حربهم فولى معقل بن قيس الرياحي وجهز معه ثلاثة آلاف رجل هم نقاوة الشيعة وفرسانهم.

وقد صار الخوارج إلى بهرسير وأرادوا الدخول إلى المدينة التي كانت بها منازل كسرى، وكان الوالي عليها سماك بن عبيد الأزدي فمنعهم فكتب إليه المستورد هذا الكتاب:

" من عبد الله المستورد أمير المؤمنين إلى سماك بن عبيد أما بعد:

فقد نقمنا على قومنا الجور في الأحكام وتعطيل الحدود والاستئثار بالفيء، وإنا ندعوك إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وولاية أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، والبراءة من عثمان وعلي لإحداثهما في الدين وتركهما حكم الكتاب، فإن تقبل فقد أدركت رشدك، وإلا تقبل فقد بالغنا في الإعذار إليك وقد آذناك بحرب فنبذنا إليك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين ".

فلما قرأ سماك كتابه قال: بئس الشيخ أنا إذا، ثم كتب للمستورد كتابا يدعوه فيه إلى الدخول في الجماعة، وأن يأخذ له الأمان فلم يجبه وأصر على ما هو عليه.

وسار معقل إليه، فلما علم به جمع أصحابه واستشارهم قائلا لهم: " إن المغيرة قد بعث إليكم معقل بن قيس وهو من السبئية المفترين الكاذبين فأشيروا علي برأيكم؟ ". فافترقوا في رأيهم بين قائل بالحرب وآخر بدعاء الناس إلى صفهم وإقامة الحجة على مخالفيهم. ولكن كان رأي المستورد غير هذا وهو أن يستعمل المطاولة في حربهم فيخرج من مكان إلى آخر حتى يبددهم، ثم يلقاهم وقد تعبوا فكان هذا رأيهم فصاروا يتنقلون من محل إلى آخر، وكانت تقع بعض المناوشات بينهم وبين رجل كان معه قوة من الفرسان يلازمهم من أصحاب معقل، ولما انتهى به المطاف إلى ديلمايا كانت المعركة النهائية حيث تبارز المستورد مع معقل فضرب كل واحد منهما صاحبه فخرا ميتين، وهزمت الخوارج وقتلوا شر قتلة فلم ينج منهم غير خمسة أو ستة (٦)، وقتل المستورد سنة ٤٣هـ.


(١) أي: فرس.
(٢) القصيري: أسفل الأضلاع.
(٣) عليه درع.
(٤) الذي يستحل قتاله أو الذي لا عهد له ولا حرمة.
(٥) أي الغبار الساطع.
(٦) انظر: ((تاريخ الطبري)) (٥/ ١٨١ - ٢٠٩)، وانظر: ((الكامل)) لابن الأثير (٣/ ٤٢١ - ٤٣٦)، وانظر: ((شرح نهج البلاغة)) (٤/ ١٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>