للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أخبر عمر بن عبد العزيز عن بعض جرائم الخوارج متأولين القرآن على غير وجهه؛ وذلك في قوله لوفد الخوارج الذين أرسلوهم لمناظرته في المسائل التي نقموها على بني أمية، فكان من كلام عمر أن قال لهم: " فأخبروني عن عبد الله بن وهب الراسبي حين خرج من البصرة هو وأصحابه يريدون أصحابكم بالكوفة، فمروا بعبد الله بن خباب فقتلوه وبقروا بطن جاريته، ثم عدوا على قوم من بني قطيعة فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال وغلوا الأطفال في المراجل، وتأولوا قول الله: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: ٢٧] ,، فلم يسعهم إلا الاعتراف بذلك" (١).ومن أقبح تأويلات الخوارج وأحقها بالمقت ما ذكره علماء الفرق كالأشعري والبغدادي والشهرستاني وغيرهم عن فرقة الأزارقة والحفصية من الإباضية من تأويلهم لبعض الآيات كذباً وافتراء بتأويلاتهم الباطلة، كما وقع لهم في حق الإمام علي رضي الله عنه (٢)، مما سنذكره عند عرض موقفهم من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ومما تقدم بيانه نعرف مدى تعلق الخوارج بالتأويل، وأنه كان السبب في كثير من أخطائهم الجسيمة التي ارتكبوها بحجة أن القرآن يطلب منهم ذلك، حين فتحوا لأنفسهم باب التأويل الذي لم يسبقهم إليه أحد فيما يرى الطالبي، ويقرر ذلك بقوله: "ونحن نزعم أن الخوارج هم أول من فتح باب التأويل في تاريخ الفرق الإسلامية وفي تاريخ هذه الملة، وكان لتأويلاتهم نتائج عملية خطيرة أقبتها بدورها آراء نظرية". ويرى أيضاً أن تطور آراء الخوارج منذ نشأتهم كان أساسه التأويل والجدل ومجاوزة ظاهر النصوص إلى ما يوافق ما يرونه من آراء وما يعتقدونه من اعتقادات (٣).وكان من مذهب قطري – وهو من رؤساء الخوارج – أن المتأول المخطئ معذور لا ينبغي معاقبته، ولهذا فقد قال لمن طلب واليه أن يقتل المقعطر وهو أحد شجعانهم بقتيل منهم، فقال لهم قطري معتذراً له: "رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه" (٤).والتأويل مظهر من مظاهر التفكير الحر الذي تميز به الخوارج ولجؤوا إليه في معارضة المذاهب الأخرى، وهذا هو ما يراه جولد زيهر حيث يقول: " وفي العهد الذي كان المذهب الخارجي فيه لا يزال مضطرباً مهوشاً لم يبلغ درجة التماسك والاستقرار، ولم يصبح نظاماً وضعياً محكماً كانت قد ظهرت عند فقهاء الخوارج نزعات عقلية دفعت بهم إلى التفكير في المسائل الدينية تفكيراً حراً، وذلك عندما غلبت على مذهبهم المظاهر السلبية التي عارضوا بها مذهب أهل السنة" (٥).وهكذا نجد أنفسنا في تصوير موقف الخوارج من النصوص الشرعية بين الوقوف عند ظاهرها وإعمال العقل فيها بالاجتهاد والتأويل – نجد أنفسنا في هذه القضية بين هذين الاتجاهين السابقين، ولكنا في الوقت ذاته نرى الإمام الأشعري لا يطلق أياً من هذين الحكمين على الخوارج جميعاً، بل يمايز بين النصيين منهم والاجتهاديين فيقول: "وهم صنفان، فمنهم من يجيز الاجتهاد في الأحكام كنحو النجدات وغيرهم، ومنهم من ينكر ذلك ولا يقول إلا بظاهر القرآن وهم الأزارقة" (٦).بل إننا نجد أن لا يؤاخذه على أي فعل يفعله الإنسان حتى ولو كان نكاح المحرمات مادام ذلك صادراً عن اجتهاد خاطئ. وهذا ما يرويه عنه ابن أبي الحديد في قوله عند بيان الأحداث التي أحدثها نجدة فجرت عليه نقمة أتباعه ...


(١) ((جامع بيان العلم وفضله)) (ص ١٢٩).
(٢) ((مقالات الإسلاميين)) (١/ ١٨٣)، ((الفرق بين الفرق)) (ص ١٠٤)، ((الملل والنحل)) (١/ ١٢٠).
(٣) ((آراء الخوارج)) (ص ١٠٧/ ١١٧).
(٤) ((تاريخ الطبري)) (٦/ ٣٠٣).
(٥) ((العقيدة والشريعة)) (ص ١٩٣).
(٦) ((المقالات)) (ص ٢٠٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>