للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكل هذه الحجج التي أوردها الحارثي في حجج باطلة مردودة على من قال بها؛ لأن استدلاله بالآيات غير صحيح وليست قاطعة في نفي الرؤية في الدار الآخرة. وما أسنده إلى أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة في نفي الرؤية في الآخرة فهو غير صحيح أيضاً عند السلف كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (١).

وأما الزمخشري والمعتزلة والشيعة، فليس بحجة في مثل هذه المسائل التي لا تثبت إلا بالنقل الصحيح، والنقل الصحيح ولله الحمد إنما هو في جانب أهل الحق القائلين بإثبات رؤية ربهم يوم القيامة. نعم إن الأبصار لا تدركه تعالى ولا تحيط به ولكنها تراه كما يليق بجلاله، وهذا مالم تنفه الآية، بل قد تفيد إثبات الرؤية؛ إذ أن نفي الإدراك يقتضي إثبات الرؤية من غير إدراك ولا إحاطة، وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره كما قاله النووي (٢).وهو ما عليه أكثر العلماء، يقول ابن تيمية: " وكذلك لا تدركه الأبصار إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء" (٣).وقد جزم إسماعيل ابن علية بأن المراد بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ أي في الدنيا (٤).

وأما استدلاله بقول الله لموسى: لَن تَرَانِي، على نفي الرؤية مطلقاً فهو غير صحيح، وقد علق الله رؤيته على ممكن وهو استقرار الجبل، والمعلق على الممكن ممكن. وأما تفسير صاحب كتاب (الأديان) لناظرة بمعنى "منتظرة " فإنه غير صحيح في هذا المقام؛ وذلك لأن النظر " إذا وصل بإلى تعين للرؤية ولا يجوز حمله على الثواب، فإن نفي رؤية الثواب لا يكون إنعاماً، وقد أورد النظر في معرض الإنعام، واللفظ نص في رؤية البصر بعدما نفيت عنه التأويلات الفاسدة " (٥).وقال الهراس عن تأويل ناظرة بمعنى منتظرة، وإن إلى بمعنى النعمة، والتقدير ثواب ربها منتظرة قال عن هذا التأويل إنه" تأويل مضحك" (٦).ويقول العيزابي مستدلاً على نفي الرؤية: " الحمد لله الذي لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن الرؤية توجب الحلول واللون والتحيز والطول والعرض والجهات والتركيب والعجز والحدوث، وغير ذلك من صفات الخلق" (٧).ويقول علي يحيى معمر إن المتطرفين من الإباضية " يفرون من كل ما يوهم التشبيه ولو بتأويل بعيد فراراً شديداً " (٨)، ويذكر عن جابر بن زيد أنه اقتدى بالصحابة في نفي الرؤية مثل حديث عائشة رضي الله عنها: " من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية" (٩).

والواقع أن هذا النفي هنا إنما هو في الدنيا أي أن أم المؤمنين لم تنف وقوع الرؤية في الآخرة، وإنما نفت وقوعها قبل يوم القيامة.

ولكن الإباضية وهم ينفون الرؤية عمموا دلالة الحديث ليستقيم لهم الاستدلال به على نفي الرؤية مطلقاً.


(١) انظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (٤/ ٦٥).
(٢) ((شرح النووي)) على مسلم (٣/ ٦).
(٣) ((الرسائل التدمرية)) (ص ٣٥).
(٤) كتاب ((السنة)) (١/ ٥٨).
(٥) ((نهاية الأقدام)) (ص ٣٦٩).
(٦) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص ٨٦).
(٧) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص ٥)، انظر: ((غاية المراد)) (ص ٧).
(٨) ((الإباضية بين الفرق)) (ص ٢٢٧).
(٩) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص ٦٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>