للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأخذ هذا الرجل بما أوتي من قوة فكر ونفاذ بصيرة في تجميع الإباضية من حوله وأحل التعصب للمذهب بدل التعصب القبلي، حتى نجح بهم في إقامة دولة للإباضية استمرت ما يقارب مائة وخمسة وعشرين عاما. ومنذ أن تم النصر للإباضية في طرابلس بدأوا ينظرون إلى ما حولهم فحشدوا الجيوش للاستيلاء على القيروان لإنقاذها من بغي ورفجومة (١) الذين عاثوا فيها فسادا، وسارت الحملة إليهم في ستة آلاف رجل، وعرضوا في طريقهم على قابس فاحتلوها ثم واصلوا السير إلى القيروان فحاصروها مدة، ثم خدعوا ورفجومة وأوهموهم أنهم منهزمون منهم، فلما خرجوا في لحاقهم عطف الإباضية عليهم فقتلوهم قتلا ذريعا عند مكان يسمى رقادة. ثم خرج أبو الخطاب عن القيروان بعد أن ولى عليها عبد الرحمن بن رستم. وبعد القضاء على ورفجومة رجع أبو الخطاب إلى طرابلس ولكن حدث أن ذهب أحد أتباعه ويسمى جميل السدراتي – لمنافرة وقعت بينه وبين أبي الخطاب – إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي طالبا منه إنقاذ ذلك الجزء من المغرب من حكم أبي الخطاب، فبعث إليهم أبو جعفر الجيش بعد الجيش وهم ينهزمون أمام الإباضية، ولكن الإباضية عادوا فانهزموا أخيرا على يد محمد بن الأشعث وانتصر عليهم الانتصار الحاسم (٢)، فقتل أبو الخطاب وكل من كان معه أثناء المعركة وتفرقت الإباضية في الجبال والأماكن النائية. ثم جاء مؤسس الدولة الإباضية الحقيقي وهو عبد الرحمن بن رستم وهو الذي إليه " يعزى الفضل في تكوين دولة الخوارج الإباضية، كان حكمها في أسرته من بعده " (٣)، وهو فارسي الأصل من طبقة حكام الفرس الأكاسرة وقد انتقل بعد مقتل أبي الخطاب إلى تيهرت التي صارت فيما بعد عاصمة الإباضية، فاجتمعت عليه كلمة الإباضية وسلموا عليه بالخلافة سنة ١٦٠هـ، وكان جل أتباعه من قبائل البربر لواته ورجالة ونفزاوة ولماية ونفوسة التي اشتهر بأنها قلعة حصينة للإباضية. وقد أصبحت تاهرت من أعظم المدن وأجملها وقد فصل القول فيها الشيخ سليمان بن عبد الله الباروني وذكر كثيرا من دقائق أخبارها يعجب له السامع، واستشهد بعدة شواهد من كلام غير الإباضية نفيا لما قد يتوهم من مبالغته في وصفها كما يقول (٤)، وقد تأسست هذه المدينة واكتمل عمرانها سنة ١٣٦هـ. وقد سار عبد الرحمن في حكمه سيرة ارتضاها الإباضية وتوالت عليه الإعانات من إباضية المشرق، الإعانات المعنوية والمادية وكان على اتصال في قضاياها المهمة بعلماء المشرق الإباضي؛ يقول محمود إسماعيل: " واستطاع عبد الرحمن بهذه الأموال تسليح رجاله من الإباضية، وتمكن بفضلهم - على حد تعبيره – من بسط سيادة الدولة على سائر قبائل البربر" (٥).


(١) ورفجومة هم قبيلة من قبائل البربر، انظر ((الإباضية في موكب التاريخ)) (١/ ٥١).
(٢) انظر ((الإباضية في موكب التاريخ)) (١/ ٥٣)، وانظر ((الكامل)) لابن الأثير (٥/ ٣١٧).
(٣) ((الخلافة والخوارج في المغرب العربي)) (ص١٠٧).
(٤) انظر: الصفحات الأولى من كتاب ((الأزهار الرياضية)) (جـ٢).
(٥) ((الخوارج في المغرب الإسلامي)) (ص١١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>