للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما هجر الأهل والأولاد، والخروج إلى الغارات والجبال، والجلوس في البراري والحفرات والسراديب، والمكوث مع الحيات والثعابين فليست منقولة إلا من الديانات الهندية التي عرفت واشتهرت بمثل هذه الأمور.

فلقد أوردنا في أول المقال قصة إبراهيم بن أدهم الصوفي القديم، وتركه للأهل والأولاد، مقارنة بقصة بوذا وحياته، وأنها مطابقة تماما لها.

وهناك أقوال ونصوص كثيرة في هذا المعنى، ذكرنا بعضا منها فيما مرّ، وسنذكر البعض الآخر إن شاء الله في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

وإننا ننقل ههنا بعض الآراء والوقائع التي لها علاقة مباشرة ووطيدة بالمذاهب والفلسفات الهندية.

فمنها ترك المال والخروج منه، وحتى القوت الذي يحتاج إليه لإبقاء الحياة، ثم التسول أمام الناس، والاستجداء منهم. كما ذكر أبو طالب المكي عن أحد الصوفية أنه دفع إليه كيس فيه مئون دراهم في أول النهار ففرقه كله، ثم سأل قوتا في يده بعد عشاء الآخرة (١).

وأورد الطوسي مثله عن أبي حفص الحداد أنه كان أكثر من عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار وينفقه على الصوفية، ثم يخرج بين العشائين فيتصدق من الأبواب (٢).

والمعروف أن التسول والاستجداء والوقوف على أبواب الناس، وحمل المخلاة والكشكول من لوازم الديانة البوذية، ومن نصائح بوذا الثمانية المشهورة التي نصح بها دراويشه ورهبانه، كما أنه ألزمهم سير البراري، وقطع الصحاري، أو المكوث في الخانقاوات، والانشغال فيها بالذكر.

ولقد أخذت الصوفية هذا النظام بكامله من البوذية، وألزموا أنفسهم به، كأنهم هم الذين نصحهم بوذا بذلك فيقول الطوسي: (الأكل بالسؤال أجمل من الأكل بالتقوى (٣).وقال: (كان بعض الصوفية ببغداد لا يكاد يأكل شيئا إلا بِذُلّ السؤال (٤).

ويروي الهجويري عن ذي النون المصري أنه قال:

(كان لي رفيق موافق دعاه عز وجل إليه، وأنتقل من محنة الدنيا إلى نعمة العقبى، ورأيته في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟.

قال: غفر لي.

قلت: بأي خصلة؟.قال: أوقفني وقال: يا عبدي، لقد تحملت كثيرا من الذّل والمشقة من السفلة والبخلاء ومددت إليهم يدك، وصبرت في ذلك، وقد غفرت لك بذلك (٥).

ونقل السهروردي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان معتكفا بجامع البصرة مدة، وكان يفطر في كل ثلاث ليال ليلا، وليلة إفطاره يطلب من الأبواب (٦).

كما نقل عن أبي جعفر الحداد وكان أستاذ الجنيد أنه كان يخرج بين العشائين، ويسال من باب أو بابين (٧).

وذكر عن النوري أنه كان يمدّ يده ويسأل الناس (٨).وذكر النفزي الرندي عن أبي سعيد الخراز أنه كان يمدّ يده ويقول: (ثمّ شيء لله (٩).

وذكر الشعراني أشياء طريفة عن فقراء الزاوية التي بناها يوسف العجمي، الذي قال عنه: هو أول من أحيا طريقة الشيخ الجنيد بمصر بعد إندراسها، يقول الشعراني عن هذا الصوفي وتلاميذه:

(كانت طريقة التجريد، وأن يخرج كل يوم من الزاوية فقيرا يسأل الناس إلى آخر النهار فمهما أتى به يكون قوت الفقراء ذلك النهار كائنا من كان.


(١) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي الفصل الحادي والأربعون في فضل الفقر والفقراء (٢/ ٢٠٦).
(٢) ((اللمع)) للطوسي
(٣) ((اللمع)) للطوسي (ص٢٥٥).
(٤) أيضا (ص٢٥٣).
(٥) كشف المحجوب للهجويري (ص٦٠٥).
(٦) انظر ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص١٥٠)، أيضا ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (٢/ ٦٦)، أيضا ((إيثاظ الهمم)) لابن عجيبة (ص٣٣٣).
(٧) انظر ((عوارف المعارف)) (ص١٥٠)، أيضا ((غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية)) (٢/ ٦٥).
(٨) ((عوارف المعارف)) (ص١٥٧).
(٩) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (٢/ ٦٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>