للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الفقراء يأتي أحدهم بالحمار محملا خبزا وبصلا وخيارا وفجلا ولحما، ويوم سيدي يوسف يأتي ببعض كسيرات يابسة يأكلها فقير واحد، فسألوه عن ذلك، فقال:

أنتم بشريتكم باقية، وبينكم وبين الناس ارتباط فيعطونكم، وأنا بشريتي فنيت حتى لا تكاد ترى فليس بيني وبين التجّار والسوقة وأبناء الدنيا كبير مجانسة.

وكان صورة سؤاله أن يقف على الحانوت أو الباب ويقول: الله، ويمدّها حتى يغيب، ويكاد يسقط على الأرض، فيقول من لا يعرفه: هذا العجمي راح في الزقزية.

وكان رضي الله عنه يغلق باب الزاوية طول النهار لأحد إلا للصلاة.

وكان إذا دقّ داق الباب يقول للنقيب: اذهب فانظر من شقوق الباب، فإن كان معه شيء من الفتوح للفقراء فافتح له، وإلا فهي زيارات فشارات (١).

فلاحظ ما فيه من الطرائف والأضحوكات.

وابن عجيبة الحسني ذكر عن التجيبي ابن ليون أنه بين أصل السؤال ومسألة الزنبيل، فيقول: (كيفيته: أن يتوضأ الرجل ويصلي ركعتين، ويأخذ الزنبيل (يعني وعاء) بيده اليمنى، ويخرج إلى السوق ومعه رجل آخر يذكر الله ويذكر الناس، والناس يعطونه في ذلك الزنبيل حتى يجمع ما تيسر من الطعام، ويعبّه بين الفقراء فيأكلون طعاما حلالا بلا تكلف ولا كلفة، هذا ما تيسر لنا في حكم السؤال (٢).

وأما من عاش في الصحاري، وتجوّل في البراري فكثيرون جداً، وقد نقل السهروردي عن بشر بن الحارث أنه قال: (يا معشر القراء، سيحوا تطيبوا (٣).

وقال:

أو من جملة المقاصد في السفر: رؤية الآثار والعبر، وتسريح النظر في مسارح الفكر، ومطالعة أجزاء الأرض والجبال ومواطئ أقدام الرجال، واستماع التسبيح من ذوات الجمادات، والفهم من لسان حال القطع المتجاورات، فقد تتجدد اليقظة بتجدد ومستودع العبر والآيات، وتتوفر بمطالعة المشاهد والمواقف الشواهد والدلالات. قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ٌ [فصلت:٥٣].

وقد كان السري يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء ودخل آذار وأورقت الأشجار طاب الانتشار. ومن جملة المقاصد للسفر: إيثار الخمول وإطراح حظ القبول (٤).

وكان قسم منهم يسافر دوما، ولذلك سمو بالسياحيين كما قال الكلاباذي: (ولكثرة أسفارهم سمّوا: سياحين، ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار شكفتية. والشكفت بلغتهم الغار والكهف (٥).

وقد ذكر أصحاب الطبقات وكتب الصوفية أحوال الكثيرين منهم.

فيذكر أحد الصوفية القدامى الهجويري عن أبي عثمان المغربي: (أنه في بداية حالة أعتزل عشرين سنة في البوادي بحيث لم يكن يسمع آدميا، حتى ذابت بنيته من المشقة، وصارت عيناه كسّم الخياط، وتحول عن صورة الآدميين، وجاءه الأمر بالصحب بعد عشرين عاما، وقيل له: أصحب الخلق. فقال لنفسه: فلأبدأ بصحبة أهل الله ومجاوري بيته، ليكون ذلك أكثر بركة، فقصد مكة، وأطلع المشايخ على مجيئة بقلوبهم، خرجوا لاستقباله، فوجدوه وقد تبدلت صورته، وفي حال لم يكن قد بقي عليه فيها شيء سوى رق الخلقة (٦).

وقال أبو طالب المكي:


(١) ((طبقات الشعراني)) (٢/ ٦٦، ٦٧).
(٢) ((ايقاظ الهمم لابن عجيبة)) الحسني (ص٣٣٣) ط مصطفى البابي الحلبي مصر الطبعة الثالثة ١٤٠٢هـ.
(٣) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص١٢٥).
(٤) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص١٢٢).
(٥) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص٢٩) الطبعة الثانية مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة ١٤٠٠ هـ.
(٦) ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص٤١٦)، أيضا ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص٣٤٧) ط باكستان.

<<  <  ج: ص:  >  >>