للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وينتهي إلى أن التصوف في ناحيته النظرية مأخوذة من الأفلاطونية الحديثة موافقا في ذلك رأي ميركس الذي شرح هذه النظرية في كتابه (التاريخ العام للتصوف ومعالمه) هيد لبرج سنة ١٨٩٣ م (١).

ويقول نيكلسون:

(ولا حاجة بنا إلى الإطناب في الكلام عن انتشار الثقافة الهلينية بين المسلمين في ذلك العصر، فإن كل من له إلمام بتاريخ العرب الأدبي يعلم كيف طغت موجة العلوم اليونانية - وقد بلغت ذروتها آنئذ - على العراق من مراكز ثلاثة: من الأديرة المسيحية في الشام، ومن مدرسة جنديسابور الفارسية في خوزستان، ومن وثني حران أو الصابئة في الجزيرة. وقد نقل إلى العرب كتب لا حصر لعددها في الفلسفة والطب وسائر العلوم اليونانية الأخرى، وعكف على دراستها المسلمون وأتخذوها أساسا قامت عليه اتجاهاتهم الجديدة في البحث، حتى لتكاد العلوم والفلسفة الإسلامية تكون مؤسسة على حكمة اليونان وحدها.

وأبرز شخصية يونانية في الفلسفة الإسلامية هي أرسطو طاليس لا أفلاطون، ولكن العرب استمدوا أول علمهم بفلسفة أرسطو طاليس من شراح الأفلاطونية الحديثة، وكان المذهب الذي غلب عليهم هو مذهب أفلوطين وفور فوريوس وأبرقلس. وليس كتاب (أثولوجيا أرسطو طاليس) الذي نقل إلى العربية حوالي ٨٤٠ م حسب تقدير دتريصي إلا ملخصاً لمذهب الأفلاطونية الحديثة. ومعنى هذا أن الأفكار الأفلاطونية الحديثة قد انتشرت بين المسلمين انتشارا واسعاً ... ولا داعي الآن إلى الاسترسال في هذا الموضوع بأكثر من هذا القدر، ويكفي القول بأن المسلمين قد وجدوا المذهب الأفلاطوني الحديث أينما حلوا وفي أي مكان اتصلوا فيه بالحضارة اليونانية.

وقد كان لمصر والشام دائما الصدارة بين الأمم التي انتشرت فيها الحضارة اليونانية، وهما البلدان اللذان ظهر التصوف فيهما لأول مرة بمعناه الدقيق وتطور كما أسلفنا. والرجل الذي اضطلع بأكبر قسط في تطور هذا النوع من التصوف، هو ذو النون المصري الذي وصف بأنه حكيم كيميائي، أو بأنه - بعبارة أخرى - أحد أولئك الذين نهلوا من منهل الثقافة اليونانية. فإذا أضفنا إلى هذا أن المعاني التي تكلم فيها ذو النون هي - في جوهرها - المعاني التي نجدها في كتابات يونانية مثل كتابات ديونيسيون ........ وليس عندي من شك في أن المذهب الغنوصي بعد ما أصابه من التغيير والتحوير على أيدي مفكري المسيحية واليهودية، وبعد امتزاجه بالنظريات اليونانية كان من المصادر الهامة التي أخذ عنها رجال التصوف الإسلامي، وأن بين التصوف والغنوصية مواضع اتفاق كثيرة هامة. ولا شك عندي أيضاً في أن دراسة هذه المسألة دراسة دقيقة وافية لما يأتي بأطيب الثمرات، ولكنني على يقين من أننا إذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة التصوف بمعناه الدقيق، استحال علينا أن نرد أصله إلى عامل هندي أو فارسي، ولزم أن نعتبره وليداً لاتحاد الفكر اليوناني والديانات الشرقية: أو بمعنى أدق وليد اتحاد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والديانة المسيحية والمذهب الغنوصي (٢)

ويقول في مقال آخر: (ومما يحملنا على الجزم بوجود أثر للفلسفة اليونانية في التصوف الإسلامي أن نظرية المعرفة فيه ظهرت في غربي آسيا ومصر في بلاد تأصلت فيها الثقافة اليونانية أحقابا طويلة، وكان بعض المبرزين في الكلام فيها من أصل غير عربي (٣).


(١) انظر مقدمة الكتور أبي العلاء العفيفي لطائفة من الدراسات المجموعة باسم في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) ص (س).
(٢) انظر في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنكلسون ترجمة عربية (ص١٤) وما بعد.
(٣) أيضا (ص٧٣، ٧٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>