للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما قولهم: إن الكلام معنى واحد فقالوه فراراً من القول بالتعدد لأنه من صفات المحدثين لا الخالق. وهذا الذي قالوه حكم مجرد عن الدليل والبرهان، فإن في القرآن ما يدل صراحة على إثبات كلمات لله تعالى كقوله: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: ١٠٩]، فأثبت كلمات لله تعالى (١)، إلا أنهم يجيبون عن ذلك بأن الكثرة راجعة إلى التعلقات لا إلى أصل الكلام، وهذا مصادرة للمطلوب وإعراض عن ظاهر الكلام "إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة" (٢) كما خاصموا المعتزلة. وهذا وقت الشروع في الرد على أقوالهم: فقول من قال إنه معنى واحد وهو مع ذلك في الأزل أمر ونهي واستخبار قول متهافت وفي غاية الضعف، إذ أن الأقسام الماضية مختلفة في حدودها – فالأمر مثلاً: طلب الفعل واقتضاؤه بالقول على وجه الاستعلاء (٣)، وأما النهي: فهو طلب الترك واقتضاؤه بالقول على وجه الاستعلاء (٤)، ومعلوم أن الخبر ليس فيه طلب ولا اقتضاء ضرورة، فإذا كان الأمر كذلك استحال جعل تلك الأقسام شيئاً واحداً (٥).وأما اختيار الرازي من أن الجميع راجع للخبر باعتبار أن الأمر في الأزل إخبار باستحقاق فاعله الثواب وتاركه العقاب، والنهي، يكون بالعكس، فقول ساقط أيضاً إذ ما قاله هو لازم الأمر ولازم النهي وليس هو حقيقة الأمر ولا حقيقة النهي (٦) فاستلزام الشيء للشيء ليس دليلاً على اتحادهما – وكذلك يقال له: إن الأصوليين ذكروا عن الخبر المجرد بقطع النظر عن قائله كونه محتملاً للصدق والكذب (٧)، ولم يذكروا ذلك في بقية أقسام الكلام فدل على تغايرها وأن القول باتحادها قلب للحقائق، ثم كذلك ما رده من الأمر والنهي إلى الخبر غير شامل لأمر الندب والنهي التنزيهي، فالأول ليس فيه إخبار عن العقاب على تركه، والثاني ليس فيه إخبار عن العقاب على فعله، ثم إنه لم يتخلص من التعدد إلا إذا قال إن الكلام خبر واحد وليس أخباراً كثيرة! (٨).وأما القول الثالث، وهو أن الكلام ليست له أقسام في الأزل، وإنما يصير أمراً ونهياً واستخباراً فيما لا يزال، فقول ساقط كذلك، إذ الكلام جنس، والجنس موجود بالقوة، أي أن وجوده كلي في الأذهان فقط، ولا يتحقق في الخارج إلا بأنواعه، والأشاعرة ممن يقول إن الجنس موجود في الأذهان فقط، فلزم على هذا أحد أمرين؛ إما أن يقولوا إنه غير متصف بالكلام أزلاً إذا اختاروا أن الأقسام كلها – الأمر والنهي والخبر والاستخبار – تكون فيما لا يزال، لأن الجنس غير موجود بهذا الاعتبار وإنما الموجود حقيقة أنواعه، أو يقولوا إن الكلام له أنواع وإنه ليس معنى واحداً، وهذا الأمر لازم لهم (٩).

ثم إن هؤلاء القائلين بأن كلام الله معنى واحد يلزمون بأشياء وهي:


(١) انظر ((الفصل لابن حزم)) (٣٦/ ١٢).
(٢) قاله الباجوري في ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: ٧٤).
(٣) انظر ((شرح الكوكب المنير)) (٣/ ١٠) على خلاف بين الأصوليين في الاستعلاء، انظر ((شرح اللمع للشيرازي)) (١/ ١٤٩) و ((المستصفى)) للغزالي (١/ ٤١١) و ((الإحكام)) للآمدي (١/ ١٣٧) و ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (ص:٨٠).
(٤) انظر ((شرح اللمع للشيرازي)) (١/ ٢٩٣) والخلاف فيه كسابقه انظر ((شرح الكواكب المنير)) (٣/ ٧٧) و ((الإحكام)) للآمدي (٢/ ١٨٧) و ((المستصفى)) (٢/ ٢٤) و ((إرشاد الفحول)) (ص: ٩٦).
(٥) انظر ((لباب العقول)) للمكلاتي (ص: ٢٨٥).
(٦) انظر ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (٤/ ١٦٣).
(٧) انظر ((شرح الكوكب المنير)) (٣/ ٧٧) فما بعدها.
(٨) انظر ((حاشية عصام على شرح التفتازاني على النسفية)) (ص: ٢٩٤).
(٩) انظر ((لباب العقول)) (ص: ٢٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>