للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإلزام الأول: هل سمع موسى عليه السلام كل كلام الباري أم سمع بعضه؟ وإليك هذه المحاورة التي دارت بين الإمام السجزي وأحد الأشاعرة فإنها كافية لإثبات هذا الإلزام: قال له الإمام: " ... ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله؟ أفهم كلام الله مطلقاً أم مقيداً؟ فتلكأ قليلاً، ثم قال: ما تريد بهذا؟ فقلت: دع إرادتي، وأجب بما عندك، فأبي وقال ما تريد بهذا؟ فقلت: أريد أنك إن قلت إن عليه السلام فهم كلام الله مطلقاً، اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد وقد فهمه موسى وهذا يؤول إلى الكفر، فإن الله تعالى يقول: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: ٢٥٥] ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالماً بالغيب وبما في نفس الله تعالى، وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة: ١١٦]، وإذا لم ينجز إطلاقه وألجئت إلى أن تقول أفهمه الله ما شاء من كلامه، دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل ومن قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت أبيت أن تقبل ذلك وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئاً، فقال هذا يحتاج إلى تأمل وقطع الكلام" (١). قلت: وإن قالوا: إن الله لم يسمعه كل كلامه لأنه كان برفع الحجاب عن موسى عليه السلام، فيلزمهم أن يقولوا إن الله لم يكن متكلماً حقيقة – وهذا هو اللازم من قولهم لزوماً انفكاك لهم عنه. الإلزام الثاني: إذا كان الكلام واحداً واختلافه بحسب التعبير عنه فإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وبالعبرية كان توراة وهكذا ... يلزم منه اتحادهما معنى – ويظهر ذلك بالترجمة، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام ويكذبه الواقع، ويلزم كذلك في الكتاب الواحد كالقرآن أن تكون آياته متحدة المعنى، فآية الدين هي آية تحريم الزنا والخمر – وهكذا – وهذا معلوم البطلان بالضرورة (٢).

الإلزام الثالث: هو من أخطر الإلزامات التي يمكن إيرادها عليهم:

إذا كنتم تقولون عن أنواع الكلام راجعة إلى معنى واحد، وإن تنوعه بحسب تنوع متعلقاته لا بتنوعه في ذاته، فهلا قلتم ذلك في بقية الصفات – القدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر – إنها كلها راجعة إلى صفة واحدة، وإن تنوعها بحسب تنوع متعلقاتها لا أنها متنوعة في ذاتها، فهي لما تتعلق بالموجود إيجاداً تسمى قدرة، وبالمجود تخصيصاً: إرادة، وبكل معدوم وموجود انكشافاً: علماً، وبالموجودات إدراكاً: سمعاً أو بصراً؟ فيرجع الجمع إلى صفة واحدة. فإن لم تلتزموا هذا فالتزموا كذلك تنوع الكلام.


(١) ذكره بكامله شيخ الإسلام ابن تيمية في ((درء تعارض العقل والنقل)) (٢٠/ ٩٠ - ٩١) ولعله أخذه من كتاب السجزي: ((الإبانة)) في الرد على الزائغين في مسألة القرآن. ولكن أورد أبو نصر نفسه في رسالته إلى أهل زبيد في ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: ١١٤) كلاما قريباً من الذي نقلته هنا.
(٢) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (٤/ ١١٢ - ١١٣) و ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (٢/ ١١٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>