فانظره ماذا يقول في مقدمة ذخائره، والعبارة ناطقة بصوت رفيع لا بصوت خافت، بما هو مكنون بين جنباتها وتراكيبها: (فإني لما نزلت مكة سنة خمسمائة وثمان وتسعين ألفيت بها جماعة من الفضلاء، وعصابة من الأكابر والأدباء والصلحاء بين رجال ونساء، ولم أر فيهم مع فضلهم مشغولا بنفسه، مشغوفا فيما بين يومه وأمسه، مثل الشيخ العالم الإمام، بمقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نزيل مكة البلد الأمين مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني رحمه الله ... وكان لهذا الشيخ رضي الله عنه بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام، تلقب بعين الشمس وإليها من العابدات العالمات السابحات الزاهدات شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلامين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أثعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه، وأغرى ورأى بظهر الغرر وامتطاه، ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض، لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقه مختومة، واسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهمم، سيدة والديها، شريفة ناديها، مسكها جياد وبيتها من العين السواد ومن الصدر الفؤاد أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فنعمت أعراف المعارف، بما تحمله من الرقائق واللطائف، علمها عملها، عليها مسحة ملك وهمة ملك، فراعينا في صحبتها كريم ذاتها مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد، فقلدناها من نظمنا فيها بعض خاطر الاشتياق، من تلك الذخائر والأعلاق، فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة، اهتماما بالأمر القديم، وإيثارا لمجلسها الكريم، فكل اسم أذكره في هذا الجزء فمنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني (١).
ولم تكن واحدة هذه التي علق بها قلب الشيخ، وهام وراءها، بل كانت هناك أخرى أيضا، وفي بيت الله الحرام وجنب الكعبة، انظر ماذا يقول:
(كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي، وهزّني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس وطفت على الرمل، فحضرتني أبيات فأنشدتها أسمع بها نفسي ومن يليني – لو كان هناك أحد – وهي قوله:
ليت شعري هل دروا أيّ قلب ملكوا
وفؤادي لو درى أيّ شعب سلكوا
أتراهم سلموا أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى في الهوى وأرتكبوا
فلم أشعر إلا بضربة بين كتفي بكف ألين من الخزّ، فالتفت فإذا بجارية من بنات الروم لم أر أحسن وجهاً، ولا أعذب منطقاً، ولا أرق حاشية، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالا ومعرفة، فقالت: ياسيدي كيف قلت؟ فقلت:
ليت شعري هل دروا أيّ قلب ملكوا
فقالت: عجباً منك وأنت عارف زمانك تقول مثل هذا! أليس كل مملوك معروف؟ وهل يصح الملك إلا بعد المعرفة وتمني الشعور يؤذن بعدمها والطريق لسان صدق فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ قل ياسيدي: ماذا قلت بعده؟ فقلت:
وفؤادي لو درى أيّ شعب سلكوا
فقالت: ياسيدي الشعب الذي بين الشغاف والفؤاد هو المانع له من المعرفة، فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة، والطريق لسان صدق فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا ياسيدي!؟ فماذا قلت بعده؟ فقلت:
أتراهم سلموا أم تراهم هلكوا
فقالت: أما هم فسلموا، ولكن أسأل عنك فينبغي أن تسأل نفسك: هل سلمت أم هلكت ياسيدي؟ فما قلت بعده؟ فقلت:
(١) ((ذخائر الأعلاق)) لابن عربي (ص١ - ٤).