ومع ذلك فقد بالغ المتصوفة في تعظيمه صلى الله عليه وسلم حتى رأوا أن الطواف بقبره والتمسح بترابه والسجود له من القربات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل واعتقدوا أنه ينفع ويضر ويعطي ويمنع وأنه يفرج الكربات وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل من يشاء وهذا غلو منهم ومبالغة ممقوتة تؤدي بصاحبها إلى الشرك والانسلاخ الكامل من الدين إن لم يتب منها. وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يملك نفعا ولا ضرا كما أمره الله عز وجل في كتابه فقال: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: ١٨٨] ففي هذه الآية نفى الله عن رسوله ملك النفع والضر وأنه لو كان يملك ذلك لما أصابه السوء بل لدفعه عنه ومعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أصيب في حروبه مع المشركين إصابات كما في غزوة أحد (١). فلو كان يملك تفريج الكربات لفرج عن نفسه ولكنه لا يملك شيئا من ذلك بل الرسول يدعو الله عز وجل والله يفرج عنه فهو عبد من عباد الله فضله الله بالرسالة وجعله خير ما خلقه الله على الإطلاق ولكن مع ذلك لم يخرج عن كونه عبدا لله.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسله الله إلا للنهي عن الشرك بالله والدعوة إلى توحيده فكل من يدعو غير الله يعتبر محادا لله ولرسوله لأنه يريد أن يعيد الشرك الذي وصفه الله بأنه أعظم ظلم وحاربه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا كان نبيا أو ملكا أو وليا فالكل عبيد الله فالتوجه إليهم بالدعاء بأنه مثل الذي يريد إيصال الماء إلى فيه مع بسط كفيه وهذا تشبيه دقيق ومقنع فكما أن الذي يريد أن يوصل الماء إلى فيه مع بسط كفيه لا يمكن أن يصل إلى فيه ويشرب منه فكذلك الذي يتوجه بالدعاء إلى غير الله لا يمكن أن يحصل على مطلوبه لأن الذي يتوجه إليه بهذا الدعاء لا يملك ما يطلبه منه وفاقد الشيء لا يعطيه وإليك الآية قال تعالى لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [الرعد: ١٤].
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بأن المدعوين من دونه لا يمكلون كشف الضر ولا تحويله عمن يدعوهم فقال تعالى قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء: ٥٦] وقد أخبر الله عز وجل بأن المشركين دعوا شركاءهم فلم يستجيبوا لهم حيث قال تعالى وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص: ٦٤] وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن المدعوين من دونه لا يملكون شيئا ولو كان شيئا بسيطا جدا كالقطمير فقال تعالى إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: ١٤].
(١) انظر ((الروض الأنف)) للسهيلي (٥/ ٤٤١) و ((السيرة النبوية)) لابن حبان (ص: ٢٢٣) وفي ((نور اليقين في سيرة سيد المرسلين)) (ص: ١٣٨).