للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا الوجه الذي ذكره الرازي لباب الزندقة، إذ هو يقود إلى التشكيك في هذا الدين، إذ كيف يغفل المحدثون التنبيه إلى أحاديث تطعن في الرب سبحانه وتعالى؟ ولذلك فهنا وقفتان في كلام هذا الرازي: الوقفة الأولى/ إن الرازي قد ادعى دعوى عريضة بأن جماعة من الملاحدة وضعوا أخباراً منكرة ولم يبين واحداً منها، ولم يقم دليلاً على دعواه – ونحن وإن كنا نوافقه على وضع الملاحدة لبعض الأحاديث، إلا أننا لا نوافقه أن المحدثين لم يعرفوها، بل إن المتتبع لأحوال الأئمة وطرقهم في معرفة الأحاديث الموضوعة يتضح له بلا لبس ولا شك أن الأحاديث المنكرة الموضوعة قد بينت وصنفت فيها مصنفات، والظاهر أن الرازي أخذ هذه الشبهة من الجهمية. فإن الجهمي الذي رد عليه الدارمي قد أورد هذه الشبهة فرد عليه الدارمي بقوله: "أوليس قد ادعيت أن الزنادقة قد وضعوا اثني عشر ألف حديث دلسوها على المحدثين؟ فدونك أيها الناقد البصير الفارس النحرير فأوجدنا منها اثني عشر حديثاً، فإن لم تقدر عليها، فلم تمتحن العلم والدين في أعين الجهال بخرافتك هذه؟ لأن هذا الحديث إنما هو دين الله بعد القرآن، وأصل كل فقه، فمن طعن فيه فإنما يطعن في دين الله" (١).الوقفة الثانية: قول الرازي: "والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها، بل قبلوها" وهذا طعن قبيح في الأئمة الأعلام الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والديانة كالسفيانين ومالك وأحمد والشفاعي وابن المبارك والليث وغيرهم من أساطين الحديث وأركان الرواية الذين ملأوا الدنيا علماً وفضلاً، وقد تهيب الرازي أن يقول إنهم جاهلون وإنما قال: "لسلامة قلوبهم" وهل سيلم القلب يقبل رواية تقدح في الربوبية؟! ولذلك هو قد صرح في الوجه الرابع بعدم عقلهم إذ أورد ذلك بصيغة التساؤل فقال: "فما كان فيهم عاقل؟ ... إن هذا من العجائب! " (٢) كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثم إن قول الرازي: "بل قبلوها" يفيد قطعاً أنه يعني أحاديث الصفات التي يتوهم الرازي وأمثاله أنها تقدح في الربوبية، ولكننا عندئذٍ لا نسلم له بأنها موضوعة ومنكرة ولذلك لا يضر قوله: "ما عرفوها" بل هم قد عرفوها ونصوا على صحتها وقبولهم والقول بمقتضاها كما تقدم عنهم سابقاً.

وبهذا يظهر جلياً أن الرازي حكم عقله في هذه المسائل دون الرجوع إلى الحقائق المقررة عند سلف هذه الأمة فيها مما أوقعه في الخطأ.

الوجه الرابع: قال الرازي: "إن هؤلاء المحدثين يخرجون الروايات بأقل العلل؛ إنه كان قائلاً إلى حب علي فكان رافضياً فلا تقبل روايته، وكان معبد الجهني قائلاً بالقدر فلا تقبل روايته، فما كان فيهم عاقل يقول إنه وصف الله تعالى بما يبطل إلهيته وربوبيته فلا تقبل روايته، إن هذا من العجائب! " (٣).


(١) ((نقض الدارمي على بشر المريسي)) (ص: ١٣٧).
(٢) انظر ((أساس التقديس)) (ص: ١٧١).
(٣) ((أساس التقديس)) (ص: ١٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>