للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجواب: ينظر أولاً في الأحاديث التي يزعم الرازي أنها تطعن في الرب، فإن كانت حقيقة تطعن في ذات الرب تعالى فإن أئمة الحديث كلهم عقلاء والحمد لله، وردوا مثل هذه الأحاديث وطعنوا في رواتها ولم يقبلوا حديثهم، ويعرف ذلك من وقف على كتبهم وأقوالهم في الجرح والتعديل والموضوعات والعلل، فمن ذلك: ما وضعه محمد بن شجاع الثلجي: ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل يا رسول الله مما ربنا؟ قال: من ماء مرور لا من أرض ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق)) (١) قال ابن قتيبة: "ولما رأى قوم من الناس إفراط هؤلاء في النفي عارضوهم بالإفراط في التمثيل، فقالوا بالتشبيه المحض بالأقطار والحدود، وحملوا الألفاظ الجائية في الحديث على ظاهرها وقالوا بالكيفية فيها، وحملوا من مستشنع الحديث: عرق الخيل وحديث عرفات وأشباه هذه من الموضوع ما رأوا أن الإقرار به من السنة وفي إنكاره الريبة، وكلا الفريقين غالط وقد جعل الله التوسط منزلة العدل، ونهى عن الغلو فيما دون صفاته من أمر ديننا فضلاً عن صفاته، ووضع عنا أن نفكر فيه كيف كان وكيف قدر وكيف خلق، ولم يكلفنا ما لم يجعله في تركيبنا ووسعنا" (٢). فهذا مثال يدل على معرفة الأئمة لا يقدح في ذات الرب تعالى. والأمثلة كثيرة، فلتراجع في كتب الموضوعات.

وأما إن كانت تلك الأحاديث مما يتوهم الرازي أنها تطعن في ذات الرب وليست كذلك، كأحاديث النزول والضحك وغير ذلك فالجواب: إنها ليست مما يطعن في ذات الرب، فإن منها المتواتر كحديث النزول إلى سماء الدنيا، ومنها الآحاد المتلقاة بالقبول عند الأئمة، فعلى هذا يكون العاقل من قبلها. ومن لم يقبلها فليس بعاقل.

وأما قوله: "إن هؤلاء المحدثين يخرجون الروايات بأقل العلل": فكلام يرجع عليه بالرد، إذ يفيد عناية المحدثين بهذا الشأن، فما كان يطعن في الرب سبحانه فبطلانه ظاهر وليس من العلل الخفية، أما أحاديث الصفات الصحيحة المتلقاة بالقبول فقد خبرها المحدثون ومحصوها ولم يجدوا لها علة، وتلقوها بالقبول. ومع هذا فكلام الرازي ليس على إطلاقه فالعلل بعضها قادح يرد بها الحديث، وبعضها ليس بقادح فلا يرد لأجلها الحديث – والله أعلم -.

الوجه الخامس: قال الرازي: "إن الرواة الذين سمعوا هذه الأخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم وما كتبوها عن لفظ الرسول، بل سمعوا شيئاً في مجلس، ثم إنهم رووا تلك الأشياء بعد عشرين سنة أو أكثر، ومن سمع شيئاً في مجلس مرة واحدة، ثم رواه بعد العشرين والثلاثين لا يمكنه رواية تلك الألفاظ بأعيانها، وهذا كالمعلوم بالضرورة، وإذا كان الأمر كذلك كان القطع حاصلاً بأن شيئاً من هذه الألفاظ ليس من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم بل ذلك من ألفاظ الراوي، وكيف يقطع أن هذا الراوي سمع مما جرى في ذلك المجلس ... (٣) " اهـ.

والجواب:

إن الرازي يضع مقدمات ظنية ثم يجعل النتيجة قطعية وهذا يخالف ما يدعيه من التحقيق والتدقيق، فمن ذلك قوله: وما كتبوها عن الرسول" فمن أين له القطع بأنهم جميعاً ما كانوا يكتبون؟


(١) ينظر ((الموضوعات)) لابن الجوزي ١/ ١٤٩.
(٢) ((الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية)) لابن قتيبة (ص: ٥٢ - ٥٣).
(٣) ((أساس التقديس)) (ص/ ١٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>