للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم لو سلم له عدم الكتابة فالجواب: إن الله قد أعطاهم قوة على الحفظ وهذا معلوم عند المحدثين، فمن ذلك ما جرى لأبي هريرة رضي الله عنه، قال أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم: "إن مروان دعا أبا هريرة فأقعدني خلف السرير، وجعل يسأله، وجعلت أكتب، حتى إذا كان كان عند رأس الحول، دعا به فأقعده وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر".وقوله كذلك: "رووا تلك الأشياء بعد عشرين سنة أو أكثر" فهذه أيضاً مقدمة ظنية ليس له عليها دليل، وقد علم بالإجماع أن بعض الصحابة قد بلغ قومه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كان يتناوب لسماع الحديث ليحدث به صاحبه في حالة غيابه كما جرى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وجاره (١) ثم إنه لو سلم له هذا القول، فليس طول الزمان موجباً لتغيير اللفظ إن كان صاحبه مازال حافظاً، ولذلك فالرازي نفسه يشعر بضعف حجته حيث قال: "وهذا كالمعلوم بالضرورة"، ولم يقل معلوم بالضرورة. ثم قوله: "ومن سمع شيئاً في مجلس مرة واحدة": فيقال له وهل تجزم بأن الحديث لا يحدث به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في مجلس مرة واحدة؟ ثم لو فرض ذلك فما الذي يضير إذا كان من سمعه حجة ثبتاً متقناً حافظاً؟ ولحفظ الحديث أسباب قد وجدت وهي: (٢)

١ - قوة الذاكرة عند المتقدمين.

٢ - تأييد الله تعالى وإرادته لظهور هذا الدين، ولا يكون إلا بحفظ أصليه وهما الكتاب والسنة.

٣ - هيبة الصحابة وتعظيمهم لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم – فكانوا يحتاطون في الرواية خشية الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.٤ - رغبتهم في حصول دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم – لهم بقوله ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها)) (٣).٥ - ومع هذا كله فقد ثبت أن بعض الصحابة قد كتب شيئاً من الحديث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد عهده بقليل – فمن ذلك: الصحيفة لهمام بن منبه عن أبي هريرة – والصحيفة الصادقة لعبدالله بن عمرو بن العاص، وغير ذلك كثير (٤).

والمقصود: أن الرازي يضع مقدمات ظنية ثم يدعي قطعية النتيجة بقوله: "وإذا كان الأمر كذلك كان القطع حاصلاً بأن شيئاً من هذه الألفاظ ليس من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم"، والجواب عن هذا:-

١ - إن هذا الذي قطع الرازي بصحته وجزم، مستنتج من مقدمات ظنية الحق بخلافها وهي لا تؤدي إلى اليقين والقطع.


(١) انظر صحيح البخاري (٨٩).
(٢) انظر: ((القرآنيون وشبهاتهم حول السنة)) (ص: ٢٤٦ - ٢٤٧).
(٣) رواه الترمذي (٢٦٥٨) , وابن ماجه (٢٣٢) , قال الترمذي: حسن صحيح, وصححه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (١/ ٣٦٤) , وقال أحمد شاكر في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)) (٦/ ٩٦): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)).
(٤) انظر ما ذكره الدارمي في رده على المريسي (ص: ١٢٧) – ففيه ذكر بعض من كتب من الصحابة. وانظر ((دراسات في الحديث النبوي)) للأعظمي (١/ ٩٢ - ١٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>