للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بيان حقيقة موقفهم من الأدلة النقلية كلها خاصة المتأخرين: وقد يظهر للناظر لأول النظر أن الأشاعرة بتقسيمهم للمسائل حسب الدليل يفيد أن منها ما يثبت بالشرع فقط، ولكن ليعلم أن العقل أصل حتى لهذا النوع عندهم، إذ أن إقامة الدليل النقلي على المسائل السمعية متوقفة على حكم العقل بالجواز أو عدم المعارض، وفي هذا يقول الغزالي: "وأما المعلوم بمجرد السمع فتخصيص أحد الجائزين بالوقوع فإن ذلك من مواقف العقول، وإنما يعرف من الله بوحي وإلهام، ... ثم كل ما ورد السمع به ينظر: فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به قطعاً إن كانت الأدلة السمعية قاطعة ... فإن توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز وجب التصديق أيضاً" (١). وهو قد تابع شيخه أبا المعالي على هذا، وشيخه قد تابع الباقلاني الذي تبع الأشعري في كتابه (اللمع) (٢).وبهذا يظهر الموقف السيئ للأشاعرة من الأدلة النقلية – والله المستعان – وقد ازداد هذا الموقف سوءاً عند الرازي بصورة تجعل الدليل النقلي لا يستدل به لا أصالة ولا تبعاً، فهو يقول: "قيل: الدلائل النقلية لا تفيد اليقين: لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، وعدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم الإضمار وعدم النقل وعدم التقديم والتأخير وعدم التخصيص وعدم النسخ وعدم المعارض العقلي. وعدم هذه الأشياء مظنون لا معلوم، والموقوف على المظنون مظنون، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل النقلية ظنية وأن العقلية قطعية، والظن لا يعارض القطع." (٣) اهـ.

وتقرير اعتراض الرازي كالآتي: إن الدليل النقلي لفظي، وهو مبني على أمور ظنية، والمبني على الظن ظني لا يفيد اليقين، فصح أن الأدلة النقلية ظنية لا تفيد القطع.

وما ذكره الرازي آخر كلامه نتيجة لمقدمتيه؛ الأولى منهما هي محل المناقشة وهي "وهو مبني على أمور ظنية"، وأما الثانية وهي: "والمبني على الظن ظني" فلا حاجة لمناقشته فيها لظهورها، ولأنه إذا بطلت المقدمة الأولى فسدت نتيجته.

وأما الأمور الظنية التي ذكرها فهي وجودية وعدمية:

١ - أما الأمور الوجودية الظنية فهي: إن إفادة الدليل النقلي للقطع على مدلولاته متوقفة على القطع بصحة نقل ألفاظ اللغة ومدلولاتها، وصحة نقل النحو حتى يتحقق مدلول الهيئة التركيبية للألفاظ، وصحة نقل الصرف لمعرفة معاني هيئات المفردات، وكلها يتوقف القطع بها على العلم بتواتر نقل العربية لغة ونحواً وصرفاً، وهو شيء مظنون، إذ لا يمتنع من القليلين الإقدام على الكذب.

٢ - وأما الأمور الظنية العدمية فهي: إن الاستدلال بالأدلة النقلية متوقف على عدم المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والمعارض العقلي ... الخ ومبناها على الاستقراء وهو ظني. فعلى هذا فإن الدليل اللفظي مبني على أمور ظنية فيكون ظنياً لأن المتوقف على المظنون مظنون (٤).

والجواب:


(١) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: ١٠٣).
(٢) انظر: ((اللمع للأشعري)) (ص: ٦١) و ((التمهيد)) للباقلاني ((ص٣٨ - ١٥٢ - ١٥٣) و ((الإرشاد للجويني)) (ص٣٥٨ - ٣٥٩).
(٣) ((معالم أصول الدين)) (ص: ٢٤). وانظر ((المطالب العالية)) (٩/ ١١٣ - ١١٨) وفيه نسب هذه المقالة إلى نفسه – ولم يصدرها بقيل كما في المعالم – فإنه قال في ((المطالب العالية)) (٩/ ١١٨) بعد أن ذكر أدلته: "فهذا تقرير البحث عن قولنا: التمسك بالدلائل اللفظية في المطالب اليقينية لا يجوز" اهـ.
(٤) انظر هذا التقرير في ((المحصول في أصول الفقه للرازي)) (١/ ٣٩٠ - ٤٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>