للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأهل الكلام الباطل ينظرون إلى النص بحد ذاته، ويعلمون فيه آراءهم واجتهاداتهم ومسلماتهم العقلية، دون أن ينظروا إلى مراد المتكلم وقصده من هذا الكلام، ودون أن يرجعوا إلى النصوص الأخرى التي قد تكون نصا في بيان المراد. ولذلك فإنهم حين يلحظون من كلامهم غلوا في صرف الألفاظ والنصوص عن معانيها، أو يوجه إليهم استشكال وتساؤل عن أسباب هذا التأويل – الذي هو في الحقيقة تحريف وتعطيل – يلجأون إلى جواب غير مقنع – وإخاله غير مقنع لهم أنفسهم لكنهم اضطروا إليه – وهو قولهم أن فائدة إنزال النصوص المثبتة للصفات اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها، لتنال النفوس الثواب، وتنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية، الموصلة إلى الحق على حد زعمهم (١). وعليه فالهدى والنور والبيان الذي جاء به الكتاب والسنة لا يتم إلا بتحريف نصوصهما بما يوافق معقولات الفلاسفة والجهمية وأهل البدع والكلام والباطل!، وقد ضرب شيخ الإسلام بمثال، أطال في شرحه (٢).والخلاصة أن الأقوال في التأويل، وفي تفسير آية آل عمران على كلا القراءتين، ليس في ذلك كله ما يبرر مذهب النفاة الذين حرفوا كثيرا من النصوص باسم "التأويل" (٣).

الأمر الثاني: القرائن المتصلة بالخطاب التي تدل على أن النص ليس على ظاهره هل يعتبر تأويلا؟ وما الشيء الذي يؤول والذي لا يؤول؟

هذه المسألة من المسائل التي كثير الخوض فيها دون ضابط أو منهج صحيح، ولذلك ضل فيها طائفتان:

طائفة: ظنت أنه إذا كان بعض نصوص الصفات ليس على ظاهره، مثل حديث: عبدي مرضت، ونحوه، فهو دليل على جوز التأويل لكل نص وارد في الصفات دل ظاهره على التشبيه أو خالف المعقول مثلا، ولو كان ثبتوه ودلالته قطعيين – وهذا قول طوائف أهل الكلام – مع تفاوتهم في ذلك -.

وطائفة: عكست الأمر فظنت إنه إذا كان لا يجوز التأويل في نصوص الصفات، فكذلك النصوص الأخرى يجب حملها على ظاهرها، ولو دلت القرائن على أن هذا الظاهر الفاسد منتف، وهؤلاء كثيرا ما يخلطون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة.

وكل من الطائفتين لم يوفق إلى الحق والصواب، بل وقع في البدعة وخالف النصوص الدالة على إثبات الصفات لله من غير تمثيل ولا تعطيل. وسبب ذلك أنهم لم يفرقوا في النصوص بين ما هو من الصفات وما ليس منها، وإنما خلطوا الأمر إما إثباتا أو نفيا وتعطيلا.


(١) انظر: ((درء التعارض)) (٥/ ٣٦٥).
(٢) انظر: ((درء التعارض)) (٥/ ٣٦٦ - ٣٦٨).
(٣) من الدراسات الجديدة في هذا الموضوع، ما كتبه الدكتور محمد السيد الجليند بعنوان: ((الإمام ابن تيمية وقضية التأويل))، انظر: (ص: ٢٩ وما بعدها)، وهي دراسة قائمة على فهم صحيح لمنهج شيخ الإسلام. والمشكلة أن كثيرا من الدارسين في أقسام الفلسفة قد يتعرضون في كتبهم وبحوثهم لآراء شيخ الإسلام ولكن بدون فهم لحقيقة مذهبه ومنهجه، ولذلك تأتي أقوالهم تحمل كثيرا من الأخطاء العلمية والمنهجية بحق مذهب السلف وبحق المدافعين عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>