وقد اهتم شيخ الإسلام بهذا الأمر، وميز تمييزا واضحا بين النصوص الدالة على الصفات، والنصوص التي ليست منها، إما لعدم ثبوتها، أو لأن القرائن دلت على أنها ليست من الصفات. بل قد قال شيخ الإسلام جازما:"وأما الذي أقوله الآن وأكتبه – وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس – أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مئة تفسير، فلم أجد – إلى ساعتي هذه – عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف"(١).
فالشأن أن تكون من آيات الصفات أو أحاديث الصفات، أما النصوص الأخرى التي قد تدل على الصفة، لكن ليست نصا فيها، فخلاف علماء أهل السنة فيها لا يجعل قول من لم يثبت بها صفة دليلا على تأويل الصفات، لأن النص نفسه ليس صريحا في ذلك.
وقد أورد شيخ الإسلام عددا من الأمثلة على ذلك، وقبل إيراد نماذج منها يحسن ذكر ما قال في مقدمة أحدها، فقد أورد – رحمه الله – مسألة قربه تعالى من عباده، والخلاف في ذلك، ثم قال:"وإذا كان قرب عباده من نفسه، وقربه منهم، ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث، والفقهاء، والصوفية، وأهل الكلام، لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر قربه من جهة امتناع القرب عليه، ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء: إن كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي، ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه، كما في قوله تعالى: فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِد [النحل: ٢٦] وقوله تعالى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: ٢].
فتدبر هذا؛ فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة، ودلالة نص عليها: يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ – حيث ورد – دالا على الصفة وظاهرا فيها. ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك، بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة، جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى – إضافة صفة – من آيات الصفات، كقوله تعالى: فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٦].
وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط؛ فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية، وهذا موجود في أمر المخلوقين، يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات"، ثم ذكر مثالين نافعين لذلك.
المصدر:موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – ٣/ ١١٤٤