للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا مع أن النصوص المتواترة من الكتاب والسنة قد دلت عليه فقد دل عليه صريح المعقول، "فإنه قد ثبت بالأدلة السمعية والعقلية أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق، محدث، كان بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة: ٤]، فهو حين خلق السموات ابتداء: إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقا للسموات والأرض، وأما أن لا يحصل منه فعل، بل وجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها، ومع خلقها سواء، وبعده سواء لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت بلا سبب يوجب التخصيص. وأيضا: فحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بداية العقول، وإذا قيل الإرادة والقدرة خصصت: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء، وأيضا فلا تعقل إرادة تخصص أحد المتماثلين إلا بسبب يوجب التخصيص، وأيضا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه، وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيا للزم وجوده قبل ذلك، لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور" (١).

وقد سبق تقرير هذا عند الكلام عن مسألة دليل حدوث الأجسام والتسلسل ومسألة حوادث لا أول لها.

والذين قالوا بأن الخلق هو المخلوق من الأشاعرة وغيرهم – عمدتهم في ذلك: أنه لو كان الخلق غير المخلوق: لكان إما قديما وإما حادثا: فإن كان قديما لزم قدوم المخلوق، وهو محال، وإن كان حادثا لزم أن تقوم به الحوادث، ثم ذلك الخلق يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل وهو باطل.

فأجابهم الجمهور – كل طائفة بحسب أصلها-:

فطائفة قالت: الخلق قديم، وإن كان المخلوق حادثا، وهذه مسألة التكوين التي قال بها الأحناف والماتريدية، وهؤلاء يقولون القول في الخلق كالقول في الإرادة، فإذا كنتم تسلمون أن الإرادة قديما أزلية، والمراد حادث، فكذلك نحن نقول في الخلق.

وطائفة قالت: بل الخلق حادث في ذاته، ولا يفتقر إلى خلق آخر، بل يحدث بقدرته، وهؤلاء يقولون: إذا كان المخلوق يحصل بقدرته بعد أن لم يكن، والمخلوق منفصل فالمتصل به أولى. وهذا قول الكرامية والهشامية. وطائفة قالت: هب أنه يفتقر إلى فعل قبله فلم قلتم إن ذلك ممتنع، وقولكم: هذا تسلسل، يقال: ليس هذا تسلسلا في الفاعلين والعلل الفاعلة، وإنما هو تسلسل في الآثار، وهو حصول شيء بعد شيء، والسلف على إثباته، فإنهم يقولون إن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، وقد قال تعالى: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: ١٠٩] فكلمات الله لا نهاية لها، وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل لأن نعيم الجنة لا نفاد له (٢). وقد سبق توضيح هذا في مسألة التسلسل، وأهل السنة يقولون: الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه، والله تعالى ذكر وجود أفعاله شيئا بعد شيء، فهو خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش، وكذا رضاه ومحبته وكلامه وغيرها من الصفات المتعلقة بمشيئته وإرادته (٣).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ٢٣٠ - ٢٣١).
(٢) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ٢٣١ - ٢٣٢)، و ((منهاج السنة)) (٢/ ٣٠٦) – ط العروبة – المحققة.
(٣) انظر: ((منهاج السنة)) – ط العروبة – المحققة (٢/ ٣٠٦ - ٣٠٧)، وانظر في موضوع هل الخلق هو المخلوق أو غيره مع بيان الراجح: ((درء التعارض)) (١/ ٢٣٨ - ٢٣٩، ٢/ ٢٤٦٤، ٤/ ٦٠، ٩/ ٥٧٩، ١٠/ ٢٢)، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (٣/ ٣٨٠)، و ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ١٤٨ - ١٤٩، ٢٢٩ - ٢٣٠، ١٦/ ٣٧٦ - ٣٧٧)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (٥/ ٥٢٨ - ٥٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>