كان الحشاشون بحق اتحاداً من الدجالين والمغفلين استطاعوا تحت قناع من التشدد الديني والأخلاقي الإساءة إلى الدين والخلق، وأن هذه الجماعة من السفاكين الذين سقط تحت نصال خناجرهم أسياد الدول ظلوا أقوياء لأنهم –ولمدة ثلاثة قرون- استطاعوا أن يبثوا الرعب في قلوب الجميع إلى أن سقط وكر الوحوش في يد الخلافة التي كانت منذ البداية هدفاً للتدمير بأيديهم كرمز للسلطة الروحية والزمنية للمسلمين.
لماذا يضحي الفدائي بحياته؟
ونأتي الآن إلى أمر حار فيه كثير من المحللين وتضاربت بشأنه تفسيراتهم، وهو الولاء العجيب من الحشاشين لسيدهم "شيخ الجبل"، الذي جذب انتباه الكثيرين وخاصة في أوربا على الأقل في بداية الأمر، حتى صار مضرب الأمثال. يقول أحد الشعراء مخاطباً حبيبته:"أنت تسيطرين عليّ بسحرك أكثر مما يسيطر الشيخ على حشاشيه الذين يذهبون لقتل أعدائه الفانين". ويقول آخر:"كما يخدم الحشاشون سيدهم بإخلاص لا ينضب، كذلك أحبك بولاء لا يكلّ". وفي خطاب حب آخر يقول كاتب مؤكداً لحبيبته:"أنا حشاشك الذي يتمنى أن يحظى بفردوسك عن طريق تنفيذ أوامرك".
وانطلاقاً من تسليمنا بأن الفكر هو موجه السلوك، فإننا نقف على تفسير إقدام الفدائي على التضحية بحياته إذا ما وقفنا على مكونات فكره التي استطاع الحسن بن الصباح أن يشكلها بطريقة تكشف عن عبقرية سياسية ومواهب إدارية واستراتيجيه كبيرة.
إن الموقف الذي ينطلق منه الفدائي خاصة وعضو حركة الحشاشين عامة، هو القلق والشعور بالخوف إزاء الواقع الذي يعيش فيه كنفس مقيدة في بدن، وكفردية مؤطرة في مجتمع بحيث لا يلقى إلا ما ينغّصه ويكدره ويجعله يشعر بأنه محاصرٌ ومستعبد، فيبدو العالم كله شراً، وتصبح مشكلته الأساسية هي مشكلة الشرّ في العالم: لماذا كان العالم يحتوي على الشر؟ ولماذا يطغى فيه الشر؟ وما مصدر هذا الشر؟.
ومن هذه الوضعية يبدأ الفدائي يعبر عن رفضه لهذا الوجود كله وبشدة فينطلق أولا: بإبداء التضايق والشكوى من هذه الوضعية ثم بإعلان الكراهية والعداء لها انتهاءً بالتشهير بها والتمرد عليها.
يرفض الفدائي هذه الوضعية كواقع خارجي، كما يرفضها كشعور داخلي ... كشروط حياة، ويرفض نفسه كوجود خاضع لهذه الشروط، ومن هنا إحساسه بالغربة بصورة مضاعفة: يشعر نفسه غريباً في عالم يراه غريباً عنه تماماً، فيتجّه إلى تمييز نفسه عن هذا العالم، إلى الانفصال والقطيعة عنه، ومن هنا يتعاظم ميل الفدائي وشوقه وتستولي عليه فكرة ضرورة التحرر من قبضة هذا العالم وقيوده والرحيل عنه إلى حيث امتلاك النفس والتحرر الكامل، والالتحاق بعالم آخر، عالم متعال عن المكان والزمان، عالم الحياة الحقيقية، عالم الكمال والطمأنينة والسعادة، العالم الذي كان فيه وأخرج منه والذي سيعود إليه، وهو يستقي معرفته بذلك العالم الآخر لا من خلال تأمل العالم الدنيوي، وكيف يمكن أن يجد فيه الجواب وهو عالم غريب كله شرّ؟ ولا يقوم باستعمال حواسه وعقله، إذ لا يمكن أن يعتمد عليهما لأنهما مرتبطان بهذا العالم؟ فلا يبقى إلا أن يطمع في أن يتلقى المعرفة التي يبغيها من القوى العليا لا تعطي عملها الغيبي إلا لإمام الزمان، ومن هنا فإن الفدائي يسلم نفسه تماماً إلى هذا الإمام أو من ينوب عنه، فيقوم الإمام أو نائبه باستغلال هذا الموقف فيدفع بالفدائي ورغبته في الخلود والرجوع إلى موطنه الأصلي إلى أقصى مدى.
إن الإمام يقدم له تاريخ له ما قبل تاريخه وما بعده، فيعرف منه أنه كان موجوداً قبل وجوده الراهن في العالم، وأنه جاء إلى هذا العالم من عالم آخر يقع خارج هذا العالم ويسمو على تحديداته الزمانية.