للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولقد كانت معاملة الذميين من أهم ظواهر عصر الحاكم بأمر الله، وكانت بلا ريب سياسة مقررة، ولم تحمل في مجموعها طابع التناقض. ففي سنة ٣٩٥ هـ أصدر الحاكم أمره للنصارى واليهود بلبس الغيار، وشد الزنار، ولبس العمائم السود. وفي سنة ٣٩٩ هـ أمر بهدم كنائس القاهرة ونهب ما فيها، وصدر مرسوم خاص بهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس. وفي العام التالي صدر مرسوم جديد بالتشديد على اليهود والنصارى في لبس الغيار وتقليد الزنار، وألغيت الأعياد النصرانية كعيد الصليب والغطاس، وعيد الشهيد (١).وقد خفت هذه المعاملة للذميين تباعًا، وخاصة قبل مقتل الحاكم سنة ٤١١ هـ، إذ أصدر عدة سجلات بإلغاء ما أصدره من قبل في حقهم. ومما يلحظ في هذا الصدد، أن موقف الحاكم إزاء النصارى واليهود هو من المواقف القليلة التي ثبت فيها الحاكم على سياسة واحدة، وأنه لم يجنح فيه من الشدة إلى اللين إلا في أواخر عصره، حينما ظهر دعاة تأليهه، يدعون إلى دين جديد وعقائد جديدة) (٢). فكان لابد من تغيير هذه المعاملة، محاولة منه لاستمالتهم إلى ما تصبو إليه نفسه؟.أما موقف الحاكم من أحكام وأركان الإسلام، (فقد أصدر سنة ٤٠٠ هـ سجل بإلغاء الزكاة والنجوى (أو رسوم الدعوة) (٣)، وأعيدت صلاة الضحى والتراويح (بعد أن منعها). وفي بعض الروايات أنه حاول أن يعدل بعض الأحكام الجوهرية كالصلاة والصوم والحج، وقيل إنه شرع في إلغائها، أو أنه ألغاها بالفعل. ومن ذلك أنه ألغى الزكاة كما رأينا، وألغى صلاة الجمعة (التي يصليها) في رمضان، وكذلك ألغى صلاته في العيدين، وألغى الحج، وأبطل الكسوة النبوية (٤)، وفي سنة ٣٩٥ هـ أمر بسب السلف (أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم)، وكتب ذلك على أبواب المساجد، ولاسيما جامع عمرو في ظاهره وباطنه، وعلى أبواب الحوانيت والمقابر، ولون بالأصباغ والذهب، وأرغم الناس على المجاهرة به ونقشه في سائر الأماكن) (٥).وقد أمر نائبه على دمشق أن يضرب رجلاً مغربيًا، ويطاف به على حمار، ونودي عليه: هذا جزاء من أحب أبا بكر وعمر، ثم أمر به فضربت عنقه) (٦).ولكنه في سنة ٣٩٧ هـ أمر بمحو كل ما كتب على المساجد والدور وغيرها، وفي سنة ٤٠١ هـ قرئ بجامع عمرو سجل بالنهي عن معارضة أمير المؤمنين (الحاكم) فيما يفعل أو يصدر فيه من الأمور والأحكام، وترك الخوض فيما لا يعني.


(١) الذي ألغاه الحاكم هو السماح لهم بجعل هذه الأعياد الخاصة بهم، أعيادا شعبية يظهرون فيها التحدي للشعور الإسلامي العام من إظهار وشرب للخمر ورفع للصلبان ... إلخ، والتي كان يسمح بها الحاكم ومن سبقه في الدولة العبيدية.
(٢) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص ٧٨ – ٧١، ٩٢).
(٣) يؤيد هذا ما ذكره الدكتور محمد كامل حسين معتمدا على رسائل الدروز أن بداية ادعاء الحاكم الألوهية كانت سنة ٤٠٠ هـ.
(٤) إننا ونحن ننقل هذه الأشياء التي استنكرت من الحاكم، لأنها كانت متبعة من قبله وألفها الناس، من غير نظر لما فيها من مخالفات شرعية أو بدع ما أنزل الله بها من سلطان، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى كساء يطرح على قبره الشريف. بل نهى صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك، ولو أن الحاكم امتنع عن هذه الأشياء اتباعا للدين وأوامره لمدحت منه، غير أنه كان يفعلها ليخالف المألوف وينقض المعروف، بناء على تصورين الأول ما ذكرته من أن هذا ليس اضطرابا بل خطة مقررة والثاني أن هذا اضطراب في عقله وتصرفاته لا يستغرب عنه.
(٥) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص ٧٦ - ٧٨).
(٦) آدم متز ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) (١/ ١٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>