للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت النفوس قد اضطربت من جراء هذه الأوامر والقيود المضنية، وأمر في نفس السجل بإعادة (حي على خير العمل) في الأذان، وإسقاط (الصلاة خير من النوم) (١)، والنهي عن صلاة التراويح والضحى) (٢).

وأما عن شغفه بالليل، فقد كان من أظهر خواص هذا الدور من حكمه، (فقد كان يعقد مجالسه ليلاً، ويواصل الركوب كل ليلة، وينفق شطرًا كبيرًا من الليل في جوب الشوارع والأزقة. وجنح الحاكم في تلك الفترة إلى نوع من التصوف المدهش (٣)، فأطلق شعره حتى تدلى على أكتافه، وأطلق أظافره، واستعاض عن الثياب البيضاء بثياب سود، فكان يرتدي جبة من الصوف الأسود العادي (٤)، وقد لا يغيرها مدة طويلة حتى يعلوها العرق والرثاثة، وقد يرتدي أحيانًا جبة مرقعة من سائر الألوان. وأضرب عن جميع الملاذ الحسية والنفسية، واقتصر في طعامه على أبسط ما تقتضيه الحياة من القوت المتواضع. وفي سنة ٤٠٥ هـ ازداد الحاكم شغفًا بالطواف في الليل، فكان يركب مرارًا في اليوم، بالنهار والليل، وكان يقصد غالبًا إلى المقطم (٥) حيث أنشأ له منزلاً منفردًا يخلو فيه إلى نفسه ويهيم في عوالمه وتصوراته، ومرصدًا خاصًا يرصد منه النجوم ويستطلعها.

وكان يؤثر ركوب الحمير، ولاسيما الشهباء منها، ويخرج دون موكب ولا زينة ومعه نفر قليل من الركابية، وكان يبدأ كعادته بالتجوال في شوارع القاهرة، ويحادث الكافة، ويستمع إلى ظلامات المتظلمين.

وقد انتهت إلينا أحاديث ونوادر كثيرة عن المناظر التي كانت تقترن بهذا الطواف، وعما كان ينزع إليه الحاكم أحيانًا من الأهواء العنيفة خلال طوافه، ومن ذلك أنه كان يأمر بإحراق الشونة ليتمتع بمرأى النيران، وأنه لقي ذات مساء عشرة من الناس سألوه الإِحسان فأمر أن ينقسموا إلى فريقين يتقاتلان، حتى يغلب أحدهما فينعم عليه، فتقاتلا حتى فني منهم تسعة وبقي واحد، فألقى عليه الدنانير، فلما انحنى ليأخذها عاجله الركابية بقتله. وأنه مر ذات ليلة على دكان شواء، فانتزع منه سكينًا وقتله بها أحد الركابية المقربين لديه بغير ما سبب معروف، وقد تركت الجثة في موضعها، وفي اليوم التالي أنفذ الحاكم إليه كفنًا جليلاً، ودفن مع التكريم) (٦). (ويحكى أنه عَنَّ له في أثناء ركوبه بالليل رأي سخيف، فكان يأمر أحد رجاله بأن يأتي شيخًا خليعًا بمشهد منه ومن الجمع الحاضر، ويضحك من هذا المنظر القبيح ويطرب له) (٧).


(١) الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلها في الأذان الأول في الفجر، ولم تستعمل في الأذان الثاني أو في الإقامة إلا بعد زمن طويل من وفاته صلى الله عليه وسلم.
(٢) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص ٦٦).
(٣) إن التصوف لم يكن في يوم من الأيام من شعائر الشيعة، بل لا يكاد يوجد بينهم متصوف واحد، ولعل ما يقصده الأستاذ محمد عبد الله عنان، ما ظهر به الحاكم من لباس مخالف للمألوف وشكل غريب، وهذا ما يظهر به المتصوفة في مصر وغيرها بثياب مخالفة للمألوف.
(٤) وهذا يدلنا على ما يتمسك به (أجاويد) طائفة الدروز حتى اليوم، من لبس الثياب السوداء من القماش المعروف بـ (كلمنظا) وهو قماش قطني رخيص متين.
(٥) بضم أوله، وفتح ثانيه، وهو الجبل المشرف على القرافة (مقبرة الفسطاط والقاهرة) وهو جبل يمتد من أسوان وبلاد الحبشة على شاطئ النيل الشرقي، حتى يكون منقطعه طرف القاهرة، ويسمى في كل موضع باسم وعليه مساجد وصوامع للنصارى، لكنه لا نبت فيه ولا ماء. انظر ((ياقوت الحموي)) في ((معجم البلدان)) (٥/ ١٧٦).
(٦) محمد عبدالله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (٦٢ - ٦٣، ٨٧، ١١١).
(٧) آدم متز ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) (٢/ ١٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>