للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا بعض ما أورده المؤرخون عن الحاكم، وما أوردناه لم يكن مجرد سرد تاريخي لحياة الحاكم، ولكنه من صلب العقيدة التي نتحدث عنها وهي عقيدة الدروز، حيث سترى بعد قليل أن هذه الوقائع التاريخية لحياة الحاكم كان لها أكبر الأثر في عقيدة هذه الطائفة، لأنهم أولوا جميع هذه الأعمال الشاذة على أنها دليل على ألوهيته وربوبيته، وليست كما يظهر لنا في الظاهر.

الدور الثالث: من سنة ٤٠٨ – ٤١١ هـ (١٠١٧ – ١٠٢١ م): في رسالة (مباسم البشارات) التي كتبها الكرماني، أحد أكابر الدعاة الإِسماعيليين في ذلك الوقت، والتي جاءت بعد اضطراب الأحوال في مصر حينما وفد إليها – الكرماني – سنة ٤٠٨ هـ، إشارة واضحة إلى حالة الدعوة الإِسماعيلية، فقد جاء فيها: (بأن عهود الدعوة التي كانت قبل ذلك قد درست، وأن مجالس الحكمة التأويلية أبطلت، وتقلبت الأحوال بالناس، فالعالي قد اتضع، والسافل قد ارتفع، والذين آمنوا بالدعوة الفاطمية اضطربت أحوالهم، وكل واحد يرمي صاحبه بالإِلحاد، وبعضهم غالى في رأيه، والبعض الآخر خرج عن عقيدته .. إلى غير ذلك) (١).فالصورة التي صورها الكرماني لهذا الاضطراب الذي ظهر في المجتمع كان بسبب ظهور دعوة جديدة تقول: بأن الحاكم بأمر الله ما هو إلا ناسوت للإِله، ولاشك أن الدعاة الذين نادوا بهذه الدعوة الجديدة، ظلوا يعملون لها مدة طويلة في الخفاء، ويعدون عدتهم للظهور بها في الوقت الملائم) (٢).

لذلك نستطيع أن نقول: إن سلوك الحاكم، إنما كان بتأثير فكرة الألوهية، وأن كل ما صدر عن الحاكم بأمر الله من أعمال وأقوال، إنما كان بدافع واحد هو تأليهه. (فالحاكم تولى مقاليد الحكم وهو صغير السن، وقد أحيط بهالة خاصة مما أسبغته العقيدة الإِسماعيلية عن أئمتها، فتأثر بهذه العقائد، إلى جانب أنه رأى حاشيته ورعيته يسجدون له كلما مر بهم، فشاع طموحه – وهو في مثل هذا السن الصغير – أن يكون إلهًا مثل الملوك الأقدمين – من الفراعنة -، واختمرت هذه الفكرة في نفسه، ولكنه لم يعلنها للناس، ولعله أسر بها إلى بعض الدعاة حوله، فتسابقوا إلى إشباع نزوته وتنميتها مع مرور الزمن) (٣). (وربما أوحى بعض الدعاة إليه بكل ما قام به من أعمال، ولكن ليس لدينا من كتب التاريخ ما يؤيد أي افتراض، والشيء المؤكد أن هذه السياسة التي اتبعها الحاكم كانت مقررة، ليفهم من أفعاله أنه هو الخالق، وأنه هو المحيي والمميت، والرازق والوهاب، إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى. فها هو الحاكم بأمر الله يسرف في القتل ليقال: إنه مميت، ويرزق الناس ويهبهم ليقال: إنه رزاق وهاب، ويعفو عمن يستحق القتل ليقال: إنه محيي) (٤).


(١) أورد الأستاذ مصطفى غالب الرسالة بأكملها في كتابه ((الحركات الباطنية في الإسلام)) من (ص ٢٠٥: ٢٣٣).
(٢) محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص ٧٥).
(٣) أحمد الفوزان ((أضواء على العقيدة الدرزية)) (ص ٢٣).
(٤) محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص ٤٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>