للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثل النار إذا وقعت في التبن لا يشعر بضوئها إلا بعد هلاكه، كذلك محبة الشريعة والإِصغاء إلى زخرفه، والتعلق بناموسه، يعمل في الأعضاء ويجري في العروق، كما قال بلسانه وقوة بأسه وسلطانه، وألطافه تجري في العروق مجاري الدم حتى يتمكن في القلب ويغري سائر العالمين. وقال الناطق: (١) (ما زج حبي دماء أمتي ولحومهم، فهم يؤثرونني على الآباء والأمهات)، فرأينا الخبرين واحدا معناهما. وقد قال القرآن: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:١] ورب الناس هاهنا هو التالي، وهو في عصر محمد: المقداد (٢)، مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:٢ - ٤] يعني زخرف الناطق، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:٥])، يعني الدعاة والمأذونين والمكاسرين، حتى يردهم عن توحيد مولانا الحاكم بذاته، المنفرد عن مبدعاته، جل ذكره.

والذات هو لاهوته الحقيقي، الذي لا يدرك ولا يحس، سبحانه وتعالى. وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ [لقمان:١٩] يعني بذلك اخفض وانقص واستر نطقك بالشريعة إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:١٩] يعني الدعوة الظاهرة، لَصَوْتُ الْحَمِيرِ: يعنى بذلك أشر كلام وأفحشه نطق الشرائع المذمومة في كل عصر وزمان، فمنهم تظهر الشكلية والضدية والجنسية.

فأظهر مولانا جل ذكره لبس الصوف، وتربية الشعر وهو دليل على ما ظهر من استعمال الناموس الظاهر، وتعلق أهل التأويل بعلي بن أبي طالب وعبادته. وركوب الحمير دليل على إظهار الحقيقة على شرائع النطقاء، وأما السروج بلا ذهب ولا فضة فدليل على بطلان الشريعتين: الناطق والأساس (٣).

واستعمال حلي الحديد على السروج دليل على إظهار السيف على سائر أصحاب الشرائع وبطلانهم. واستعمال الصحراء في ظاهر الأمر، وخروج مولانا جل ذكره في ذلك اليوم من السرداب إلى البستان، إلى العالم دون سائر الأبواب. والسرداب والبستان الذي يخرج مولانا جل ذكره منهما ليس لأحد إليهما وصول، ولا له بهما معرفة، إلا أن يكون كمن يخدمهما أو خواصهما. وهو دليل على ابتداء ظهور مولانا سبحانه بالوحدانية ومباشرته بالصمدانية بالحدين اللذين كانا خفيين عن سائر العالمين، إلا لمن يعرفهما بالرموز والإِشارات، وهما الإِرادة والمشيئة، كما قال: (إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ... كل شيء وإليه ترجعون) (٤)، والإرادة هي ذو معة، والمشيئة تالية، كما قال: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:٣٠]، فليس يعرفهما إلا الموحدون لمولانا جل ذكره. ومن السرداب يخرج إلى البستان، كذلك العلم يخرج من ذي معة إلى ذي مصة، الذي هو بمنزلة الجنة صاحب الأشجار والأنهار، ثم يخرج منها إلى المقس (٥)، فأول ما يلقى بستان برجوان (٦)، وهو المعروف بالحجازي، فلا يدخله، ولا يدور حوله في مضيه، وهو دليل على الكلمة الأزلية.


(١) يعني محمد صلى الله عليه وسلم
(٢) هو المقداد بن عمرو، ويعرف بابن الأسود، صحابي، من الأبطال، وهو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام وهو أول من قاتل على فرس في سبيل الله، شهد بدرا وغيرها، وسكن المدينة وتوفي فيها سنة ٣٣ هـ.
(٣) يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(٤) *يس: ٨٢ *، وقد أسقطت من الآية كلمة (ملكوت) قبل (كل شيء).
(٥) مكان في الجهة الغربية للقاهرة، وكانت بساتين يحدها من الغرب النيل، وفيه جامع المقس، واسم المقس يطلق على المكس، والمقسم، وأم دنين أيضا، وهي واقعة على شاطئ النيل.
(٦) بستان برجوان، ويقصد برجوان الصقلبي الخادم، وحامل المظلة للحاكم، وقد قتله الحاكم وكان له بستان يعرف ببستان برجوان.

<<  <  ج: ص:  >  >>