للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن رسوم مولانا جل ذكره الركوب في الهاجرة، والمسير في الرمضاء وفي الشتاء، إذا كان يوم جنوب صعب وغبار عظيم يتأذون الناس في بيوتهم من ذلك الريح والغبار. ثم يركب المولى سبحانه في ظاهر الأمر إلى حجر الجب، ويرجع وما في الموكب أحد إلا وقد دمعت عيناه من الغبار والريح، وكلت ألسنتهم عن النطق الفصيح، ونالهم من المشقة والتعب ما لم يقدر عليه أحد، ومولانا سبحانه على حالته التي خرج بها من الحرم المقدس، ولم يراه (١) أحد قط في وقت الهاجرة الهائلة والسموم القاتلة قد اسود له وجه في ظاهر الأمر، ولا لحقه شيء من تعب، ولا يقدر أحد منهم يقول بأنه لحقه شيء من ذلك. ومع هذا فقد ترك خلق كثير ممن هو معه في المواكب وكدهم بالنظر إليه لمثل هذه الأمور، فلم يروا منها شيئا، ولا يقدر أحد يقول من حضر مع مولانا سبحانه في ظاهر الأمر في مواضع لا يحصرها كل الناس، أنه شاهد (٢) يفعل شيئًا مما ذكرناه من تعب أو أكل أو شرب حاشاه سبحانه من ذلك. وأيضًا ما يزعم المشركون به مما أوراهم (٣) من علة جسم من حيث إعلال قلوبهم، وهو في ظاهر الأمر يركب في محفة يحملها أربعة من الأضداد المشركين وتشق به أوساط المارقين الناكثين والمنافقين، وما من العساكر إلا وقد قتل ساداتهم، والرعية كلهم أعداؤه في الدين، إلا شرذمة يسيرة موحدين له مؤمنين به راضين بقضائه، ومن رسوم الملوك أنهم لا يثقوا بأحد من عساكرهم، ولا من أولادهم خوفًا من غدرهم. فكيف يزعمون أنه مريض، وليس يقدر يمشي، وقد قتل جبابرة الأرض وملوكهم، ويمشي بينهم في محفة، وهو الذي ذكرته لكم في هذه السيرة وأصناف هذه الأفعال ليس هي فعل أحد من البشر، وما هو شيء يستعظم للمولى سبحانه) (٤).

إذن فكل هذا القتل، والسفك، وغير ذلك من أفعاله، لم تكن طبيعية، بل هي مقررة، تمت بخطة يستوعبها الناس على أن هذا ليس من فعل بشر، وإنما هو فعل إله: يقتل، ويحيي، ويرزق، ويمنع.

أما لماذا تسمى الإِله المعبود بأسماء العباد؟ فهذا أيضا ما يوضحه حمزة في (رسالة السيرة المستقيمة) بقوله: (فإن قال قائل: فلم تسمى المولى سبحانه باسم العبد، وما الحكمة فيه؟

قلنا له بتوفيق مولانا جل ذكره وتأييده: أن جميع ما يسمون الباري جل ذكره في القرآن وغيره فهو لعبيده وحدوده، وأجل اسم عندهم في القرآن (الله)، وظاهره خطوط مخلوقة، وباطنه حدود مرئية مرزوقة وظاهره اسم وباطنه مسمى، والمعبود غيرهما وهو الاسم الحقيقي، وهو لاهوت مولانا سبحانه وتعالى عما يصفون. فلما كانت العبيد عاجزين عن النظر إلى توحيد باريهم إلا من حيث هم وفي صورهم البشرية، أوجبت الحكمة والعدل أن يتسمى بأسمائهم حتى يدركون بعض حقائقه) (٥).


(١) كذا في الأصل.
(٢) كذا في الأصل.
(٣) كذا في الأصل.
(٤) ((رسالة السيرة المستقيمة)).
(٥) ((رسالة السيرة المستقيمة)).

<<  <  ج: ص:  >  >>