للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقس على هذا نظرية الكسب والكلام النفسي ونفي التأثير وأشباهها مما سترى في عقائد الأشاعرة على أن الموضوع الذي يجب التنبه إليه هو التفريق بين متكلمي الأشاعرة كالرازي والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي ونحوهم وبين من تأثر بمذهبهم عن حسن نية واجتهاد أو متابعة خاطئة أو جهل بعلم الكلام أو لاعتقاده أنه لا تعارض بين ما أخذ منهم وبين النصوص، ومن هذا القسم أكثر الأفاضل الذين يحتج بذكرهم الصابوني وغيره وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر – رحمه الله -.

ولست أشك أن الموضوع يحتاج لبسط وإيضاح ومع هذا فإنني أقدم للقراء لمحة موجزة عن موقف ابن حجر من الأشاعرة:

من المعلوم أن إمام الأشعرية المتأخر الذي ضبط المذهب وقعد أصوله هو الفخر الرازي (ت ٦٠٦ هـ) ثم خلفه الآمدي (٦٣١ هـ) والآرموي (٦٨٢ هـ) فنشرا فكره في الشام ومصر واستوفيا بعض القضايا في المذهب (وفكر هؤلاء الثلاثة هو الذي كان الموضوع الرئيسي في كتاب (درء التعارض) وأعقبهم الإيجي صاحب (المواقف) (الذي كان معاصراً لشيخ الإسلام ابن تيمية) فألف (المواقف) الذي هو تقنين وتنظيم لفكر الرازي ومدرسته وهذا الكتاب هو عمدة المذهب قديماً وحديثاً

وقد ترجم الحافظ الذهبي – رحمه الله – في الميزان وغيره للرازي والآمدي بما هم أهله، ثم جاء ابن السبكي – ذلك الأشعري المتعصب – فتعقبه وعنف عليه ظلماً، ثم جاء ابن حجر – رحمه الله – فألف لسان الميزان فترجم لهما بطبيعة الحال – ناقلاً كلام ابن السبكي ونقده للذهبي (١) – ولم يكن بخاف عليه مكانتهما وإمامتهما في المذهب كما ذكر طرفاً من شنائع الآرموي ضمن ترجمة الرازي.

فإذا كان موقف ابن حجر لأن موقفه هو الذي يحدد انتماءه لفكر هؤلاء القوم أو عدمه؟ إن الذي يقرأ ترجمتيهما في اللسان لا يمكن أن يقول إن ابن حجر على مذهبهما أبداً، كيف وقد أورد نقولاً كثيرة موثقة عن ضلالهما وشنائعهما التي لا يقرها أي مسلم فضلاً عمن هو في علم الحافظ وفضله؟

على أنه قال في آخر ترجمة الرازي: " أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده ".

وهذه العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول نحن هنا، فإن وصية الرازي التي نقلها ابن السبكي نفسه صريحة في رجوعه إلى مذهب السلف.

فبعد هذا نسأل:

أكان ابن حجر يعتقد أنه يؤيد عقيدة الرازي التي في كتبه أم عقيدته التي في وصيته؟

الإجابة واضحة من عبارته نفسها.

هذه واحدة. والأخرى: أن الحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم، فمثلاً خالفهم في الإيمان، وإن كان تقريره لمذهب السلف فيه يحتاج لتحرير، ونقدهم في مسألة المعرفة وأول واجب على المكلف في أول كتابه وآخره (٢).كما أنه نقد شيخهم في التأويل " ابن فورك " في تأويلاته التي نقلها عنه في (شرح كتاب التوحيد في الفتح وذم التأويل والمنطق) مرجحاً منهج الثلاثة القرون الأولى كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة (٣) وغيرها من الأمور التي لا مجال لتفصيلها هنا. والذي أراه أن الحافظ – رحمه الله – أقرب شيء إلى عقيدة مفوضة الحنابلة كأبي يعلى ونحوه ممن ذكرهم شيخ الإسلام في (درء تعارض العقل والنقل) (٤) ووصفهم بمحبة الآثار والتمسك بها، لكنهم وافقوا بعض أصول المتكلمين وتابعوهم ظانين صحتها عن حسن نية.


(١) ((ترجمة الرازي)) (٤/ ٤٢٦) و ((الآمدي)) (٦/ ١٣٤).
(٢) انظر ((فتح الباري)) (١/ ٤٦، ٣/ ٣٥٧ - ٣٦١، ١٣/ ٣٤٧ - ٣٥٠).
(٣) انظر ((فتح الباري)) (١/ ٤٦، ٣/ ٣٥٧ - ٣٦١، ١٣/ ٣٤٧ - ٣٥٠).
(٤) ((فتح الباري)): (١٣/ ٢٥٣، ٢٥٩، ٤٠٧) وغيرها كثير.

<<  <  ج: ص:  >  >>