للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن المعلوم أن المسلمين كانوا على جهادة السنة والطريق حتى ظهرت الفرق الكلامية، وحصلت الفتن وابتلي المسلمون، فلما جاء أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس وبدأ يظهر بعض رؤوس الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، انتهض السلفيون لدحر هذه الفتنة، وكشف زيفها وأباطيلها، حتى كتب الخليفة العباسي القادر بالله تلك العقيدة المعروفة بالقادرية والتي سبق أن ذكرنا طرفاً منها، وأمر أن يرسل بها إلى أنحاء الدولة العباسية وأطراف الأمة الإسلامية. وكانت هذه العقيدة قد كتبها أبو أحمد الكرجي المعروف بالقصاب المتوفي سنة (٣٦٠هـ)، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (١)، مما يعني أنه قد كتبها للقادر بالله قبل توليه الخلافة، إذ أنه تولى الخلافة سنة (٣٨١هـ)، ثم أظهرها في خلافته وأرسل بها في الآفاق. قال الوزير ابن جهير: "هكذا فعلنا أيام القادر، قرئ في المساجد والجوامع" (٢).وممن عمل بهذا الأمر من نشر العقيدة ودعوة الناس إليها أعظم ملوك الدولة الغزنوية وفاتح الهند العظيم محمود بن سبكتكين (٣)، وكان يحكم أكثر المشرق الإسلامي إلى الهند، فقد أمر بالسنة واتباعها، وأمر بلعن أهل البدع بأصنافهم على المنابر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعتمد محمود بن سبكتكين نحو هذا – من فعل القادر من نشر السنة وقمع البدعة – في مملكته، وزاد عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر، فلعنت الجهمية والرافضة والحلولية والمعتزلة والقدرية، ولعنت أيضا الأشعرية" (٤) اهـ. وقال أيضاً: "ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة، فلعنوا الكلابية والأشعرية كما كان في مملكة الأمير محمود بن سبكتكين" (٥) اهـ. وقال الذهبي: "وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة والمشبهة والجهمية والمعتزلة ولعنوا على المنابر" (٦) اهـ.

ثم لما كان في خلافة القائم بالله ابن القادر، رفع بعض الأشاعرة رؤوسهم وظهر كتاب ابن فورك (تأويل مشكل الحديث) حيث ملأه بالتأويلات لأخبار الصفات، فقام القاضي أبو يعلى بالحق ونصر السنة وألف كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) رداً على تأويلات ابن فورك وحصلت فتنة، عندها أمر الخليفة القائم بأمر الله أن يقرا (الاعتقاد القادري)، ويأخذ توقيعات العلماء على الإقرار بما فيه وأنه المعتقد الصحيح، وكان ذلك في سنة "٤٣٣هـ".قال ابن كثير في أحداث سنة ٤٣٣هـ: "وفيها قرئ "الاعتقاد القادري" الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف" (٧) اهـ.

وكان ممن وقع عليه القاضي أبو يعلى كما سبق نقل كلام ابنه في الطبقات.


(١) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (٦/ ٢٥٢)، و ((الصفدية)) (٢/ ١٦٢).
(٢) ذكر ذلك ابن الجوزي في ((المنتظم)) في أحداث سنة (٣٦٠هـ).
(٣) ((أعظم سلاطين الدولة الغزنوية))، حكم ما بين (٣٨٨ - ٤١٢هـ).
(٤) ((بيان تلبيس الجهمية)) (٢/ ٣٣١ - ٣٣٢).
(٥) ((مجموع الفتاوى)) (٤/ ١٥).
(٦) ((سير أعلام النبلاء)) (١٥/ ١٣٥).
(٧) ((البداية والنهاية)) (١٢/ ٤٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>