للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا القانون لا يخفى اختلاله على متأمل؛ إذ يلزم منه أن يكون كل مغضوب عليه معاقباً، وهذا يؤدي إلى قول المعتزلة في وجوب معاقبة صاحب الكبيرة، كما يطعن فيه كون كثير من الصفات التي لا يثبتونها ليست لها بدايات ولا نهايات، وإلا فأين بدايات ونهايات "اليد" و"العين" و"القدم" وغيرها من الصفات الثابتة في النقل؟ ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أول من اشتهر عنه نفي الصفات الخبرية، وتأويلها أبو المعالي الجويني ت ٤٧٨هـ حيث أولها في كتاب (الإرشاد)، ثم رجع عنه وحرم تأويلها في (الرسالة النظامية) (١). ولعل المقصود من كلامه – رحمه الله – الاشتهار كما هو ظاهر عبارته، وإلا فقد نفى بعضها الباقلاني ت ٣٠٤هـ، ومشى على قانون التأويل فقال: "ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته، ورضاه ورحمته، وكراهيته، وغضبه وسخطه، وولايته، وعداوته كلها راجع إلى إرادته" (٢) هذا مسلك الأشاعرة في الإثبات والتأويل. وأما الصفات الثبوتية عند الماتريدية فثمان صفات وهي: القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين (٣). وإنما خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها لأنها هي الثابتة بالعقل عندهم، وما عداها لا يدل العقل على ثبوتها فيلزم نفيها تنزيها لله، كما قال الأشاعرة تماماً، ولذا لا تجد لهم قدماً راسخة في الإثبات، يقول الماتريدي – عن علو الله تعالى -: "والأصل فيه أن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن، جل عن التغير والزوال والاستحالة والبطلان، إذ ذاك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم" (٤) ويقول: "وأما رفع الأيدي إلى السماء فعلى العبادة، ولله أن يتعبد عباده بما شاء ويوجههم إلى حيث شاء، وإن ظن من ظن أن رفع الأبصار إلى السماء لأن الله من ذلك الوجه إنما هو كظن من يزعم أنه من جهة أسفل الأرض بما يضع عليه وجهه متوجهاً في الصلاة ونحوها ... على أن السماء هي محل ومهبط الوحي ومنها أصول بركات الدنيا، فرفع إليها البصر لذلك" (٥) وهذا الكلام يدل دلالة قاطعة على أن الرجل لا يثبت علو الله، وأنه لا يفرق بين ما ثبت بالشرع وبين ما ثبت بالفطرة. وأما آيات الاستواء فيرى التوقف في فهم معناها، يقول أبو منصور: " ... وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه فيجب القول بـ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: ٥] على ما جاء به التنزيل وثبت ذلك في العقل، ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكرنا ... ونؤمن بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء ... فإن الله يمتحن بالوقوف في أشياء كما جاء من نعوت الوعد والوعيد، وما جاء من الحروف المقطعة وغير ذلك مما يؤمن المرء أن يكون ذامما المحنة فيه الوقف لا القطع" (٦) هذا موقفه من هذه الصفة في هذا الكتاب، ويقول في كتاب آخر: "لو حقق معنى الاستواء لأوجب ذلك تغيراً وزوالاً ونحو ذلك، والله يجل عنه ويتعالى؛ إذ ذلك علم الحدوث، وأمارة الغيرية" (٧) وهذا القول يناقض القول بالتوقف؛ لأنه نفي إثبات لهذه الصفة الثابتة في القرآن الكريم، مع العلم أن الوقف ذاته يخالف مذهب السلف من أهل السنة والجماعة.


(١) انظر ((درء التعارض)) (٢/ ١٨)، و ((الإرشاد)) (ص: ١٤٦) فصل اليدان، والعين، والوجه.
(٢) ((الإنصاف)) (ص: ٢٦)، وانظر (ص: ٣٩ - ٤١)، و ((التمهيد)) له؛ حيث أول صفتي الرضا، والغضب.
(٣) انظر ((إشارات المرام)) (ص: ١٠٧، ١١٤).
(٤) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص: ٦٨ - ٦٩).
(٥) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص: ٧٦، ٧٧).
(٦) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص: ٧٤ - ٧٥).
(٧) ((تأويلات أهل السنة)) – الجزء المخطوط (ل٦٤٩ –أ).

<<  <  ج: ص:  >  >>