للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونظراً لاضطراب قول الماتريدي بين التأويل والتفويض اضطربت الماتريدية بعده، فرجح بعضهم التأويل، ورجح آخرون التفويض، ومنهم من أجاز الأمرين، ومنهم من خص التفويض بفئة من الناس والتأويلات بفئة أخرى، حيث قالوا – عن آيات الصفات -: "إما أن نؤمن بتنزيلها ولا نشتغل بتأويلها ... وإما أن تصرف إلى وجه من التأويل يوافق التوحيد" (١) وقالوا: "إنه تعالى استوى على العرش مع الحكم بأنه ليس كاستواء الأجسام على الأجسام من التمكن والمماسة والمحاذاة، بل بمعنى يليق به سبحانه وحاصله: وجوب الإيمان بأنه استوى على العرش مع نفي التشبيه، فأما كون المراد أنه استيلاؤه على العرش فأمر جائز الإرادة؛ إذ لا دليل على إرادته عيناً، فالواجب عيناً ما ذكرنا، وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا باتصال ونحوه من لوازم الجسمية وأن لا ينفوه فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء" (٢).وقال ماتريدي آخر: "فاللائق بالعوام سلوك طريق التسليم، واللائق بأهل النظر طريق التأويل لدفع تمسكات المبتدعة" (٣) "فالماتريدية إذاً ليس لهم قانون موحد مستقيم يسيرون عليه في التأويل ولا في التفويض فأقوالهم فيه مختلفة مضطربة" (٤).

وبإلقاء نظرة عاجلة على ما سبق يتجلى لنا ما يلي:١ - التقارب البين بين المنهج الأشعري، والمنهج الماتريدي في الصفات وقانون التأويل، ولعل السبب في ذلك راجع إلى أن المذهبين انبثقا من المذهب الكلابي الذي كان منتشراً في بلاد ما وراء النهر، وهي البلاد التي عاش فيها الماتريدي (٥)، وهذا التقارب جعل عدداً من الباحثين والكتاب يجزمون بأنهما فرقة واحدة تحت اسمين: يقول البياضي الماتريدي: "إنهم – يعني الماتريدية والأشعرية – متحدوا الأفراد في أصول الاعتقاد، وإن وقع الاختلاف في التفاريع بينهما؛ إذ لا يعد كل من خالف غيره في مسألة ما صاحب مقالة عرفاً، وما من مذهب من المذاهب إلا ولأصحابه اختلاف في التفاريع" (٦) ويقول الزبيدي: "إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية" (٧) ويقول فتح الله خليف: "حرصنا على أن نقدم كل هذه النصوص لنبين أن الحافر يقع على الحافر وأن توسط الماتريدي هو بعينه توسط الأشعري، وأن شيخي السنة يلتقيان على منهج واحد، ومذهب واحد، في أصول مسائل علم الكلام" (٨) وذكر أيضاً أن هذا التقارب الفكري هو الذي يفسر لنا كون الأزهر – رغم أشعريته الكلابية – اتخذ كتاب (العقائد النسفية) للنسفي الماتريدي مصدراً أساساً لدراسة التوحيد منذ زمن بعيد (٩).وتوصل شمس الدين الأفغاني في موازنته بين الطائفتين إلى نتيجة ذكرها بقوله: "والحاصل أن الماتريدية والأشعرية فرقة واحدة من ناحية المعتقد، أو كادتا أن تكونا فرقة واحدة، على أقل التقدير، وما بينهما من الخلاف فهو يسير وغالبه لفظي، وهما واسطة بين أهل السنة، والجهمية الأولى، والمعتزلة، كما أنهما من المعطلة" ثم ذكر أن الماتريدية الديوبندية يصرحون بأنهم أشعرية وماتريدية في آن واحد (١٠).


(١) أبو المعين النسفي الماتريدي: ((التمهيد في أصول الدين)) (ص: ١٩) / القاهرة/ ١٤٠٧هـ/ ت: عبدالرحمن قابيل.
(٢) الكمال بن همام الحنفي الماتريدي: ((المسايرة)) (ص: ٣٠ - ٣٣).
(٣) الكمال بن همام الحنفي الماتريدي: ((المسايرة)) (ص: ٣٣) والكلام لابن قطلوبغا الحنفي.
(٤) ((الماتريدية دراسة وتقويماً)) (ص: ١٦٦).
(٥) ((الماتريدية دراسة وتقويماً)) (ص: ٤٩٢).
(٦) ((إشارات المرام)) (ص: ٥٢).
(٧) ((إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين)) (٢/ ٦) /بيروت/ دار إحياء التراث العربي.
(٨) مقدمة ((كتاب التوحيد)) (م ١٨).
(٩) مقدمة ((كتاب التوحيد)) (م ٩).
(١٠) ((الماتريدية)) (ص: ١٣٥، ١٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>