للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الأصل كان يجب على الماتريدية أن يعتمدوا عليه في إثبات جميع العقائد لا أن يقتصروا عليه في بعضها دون بعض، وهذا التفريق في التلقي هو الذي أوقعهم في الاضطراب والانحراف. ثم إن الماتريدية في إثباتها للأسماء لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله تعالى، وباب التسمية، فأدخلوا في أسمائه تعالى ما ليس من أسمائه كالصانع، والقديم، والذات، والشيء ... ونحو ذلك. حتى أن الماتريدي ذكر في تفسيره لقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:٢٢]، أن لفظ (هو) من أسماء الله تعالى (١).والصواب: أنه يجب التفريق بين باب التسمية وباب الإخبار، إذ أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه الحسنى وصفاته العليا. فما يطلق عليه تعالى في باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق عليه في باب الإخبار لا يجب أن يكون توقيفياً (٢).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعي إلا بالأسماء الحسنى، أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه، مثل اسم شيء، وذات، وموجود ... وكذلك المريد والمتكلم، فإن الإرادة والكلام تنقسم إلى محمود ومذموم، فليس ذلك من الأسماء الحسنى، بخلاف الحكيم والرحيم والصادق ونحو ذلك، فإن ذلك لا يكون إلا محموداً.

وهكذا كما في حق الرسول حيث قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا [النور: ٦٣] فأمرهم أن يقولوا يا رسول الله، يا نبي الله، كما خطبه الله بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: ٦٤ - ٦٥] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: ٦٧] لا يقول يا محمد، يا أحمد، يا أبا القاسم! وإن كانوا يقولون في الإخبار كالأذان ونحوه، أشهد أن محمداً رسول الله، كما قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ [الفتح: ٢٩]، وقال: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: ٦]، وقال: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: ٤٠].فهو سبحانه لم يخاطب محمدا إلا بنعت التشريف ... مع أنه في مقام الإخبار عنه قد يذكر اسمه. فقد فرق سبحانه بين حالتي الخطاب في حق الرسول وأمرنا بالتفريق بينهما في حقه، وكذلك هو المعتاد في عقول الناس إذا خاطبوا الأكابر من الأمراء والعلماء والمشايخ والرؤساء لم يخاطبوهم ويدعوهم إلا باسم حسن، وإن كان في حال الخبر عن أحدهم، يقال: هو إنسان وحيوان ناطق وجسم ومحدث ومخلوق ... " (٣).

وأما بالنسبة لإثباتهم لمدلولات الأسماء، فهم إما أن يجعلوا مدلول الاسم هو الذات، وهذا في اسم (الله) فقط، وإما أن يكون المدلول مأخوذاً عندهم باعتبار ما أثبتوه من الصفات، كاسم السميع والبصير والعليم ... ، وإما أن يردوه إلى الصفات السلبية والإضافية.


(١) ((التأويلات)) (ل ٥٦٢) الظاهرية، وانظر: ((التوحيد)) (ص ٤٢، ٦٥)، ((بحر الكلام)) (ص ١٨، ١٩، ٢٠)، ((التمهيد)) (ص ١٤)، ((النور اللامع)) (ل ٤٠)، ((ضوء المعالي)) (ص ٢٦، ٢٧).
(٢) انظر: ((الجواب الصحيح)) (٣/ ٢٠٣)، ((بدائع الفوائد)) (١/ ١٦١، ١٦٢)، ((لوامع الأنوار البهية)) (١/ ١٢٤).
(٣) ((الفتاوى)) (٦/ ١٤٢، ١٤٣)، وانظر ((شرح الأصفهانية)) (ص ٥) ط مخلوف، ((رد الإمام الدارمي على بشر المريسي)) (ص ٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>