للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثانية: دلالة المحدثات. قال أبو المعين النسفي موضحاً الطريقة الأولى: "إذا ثبت أن صانع العالم قديم ومن شرط القدم التبري عن النقائص، ثبت أنه حي قادر سميع بصير عالم، إذ لو لم يكن كذلك لكان موصوفاً بالموت والجهل والعجز والعمى والصمم، إذ هذه الصفات متعاقبة لتلك الصفات، فلو لم تكن هذه الصفات ثابتة لله تعالى (لثبت) ما يعاقبها وهي صفات نقص ومن شرط القدم الكمال، فدل أنه موصوف بما بينا لضرورة انتفاء أضدادها التي هي من سمات (المحدث) لكونها نقائص" (١).وقال في الثانية: "وإذا ثبت أيضاً أنه هو المخترع لهذا العالم مع اختلاف أنواعه، وهو الخالق له على ما هو عليه من الإحكام والإتقان وبديع الصفة وعجيب النظم والترتيب وتركيب الأفلاك وما فيها من الكواكب السائرة وما يرى من البدايع في أبدان الحيوانات من الحياة والتميز والاهتداء إلى اجتلاب المنافع (وانتفاء) المضار، وما فيهن من الحواس، وما في الأجسام الجمادية من البدايع والخاصيات التي أودعت فيها على وجه لو تأمل ذو البصيرة الموصوف بدقة الفكرة وحدة الخاطر ورجاحة العقل وكمال الذهن وقوة التمييز جميع عمره فيها لما وقف على كنهها بل على جزء من ألف جزء مما فيها من آثار كمال الحكمة ولطف التدبير، ثبت أنه حي قادر عالم سميع بصير ... يجري العلم بذلك مجرى الأوائل البديهية، حتى أن العقلاء بأسرهم ينسبون من يضيف نسيج الديباج المنقوشة، وتحصيل التصاوير المونقة، وبناء القصور العالية، واتخاذ السفن الجارية ... إلى ميت عاجز جاهل، إما إلى الحماقة والغباوة وإما إلى العناد والمكابرة ... " (٢).

وقبل ذكر استدلالهم على إثبات كل صفة على حدة، لابد من بيان أمر مهم وهو: أن ما أثبته الماتريدية من صفات الله تعالى ثابت بالشرع والعقل - ولا ريب في هذا - ولكن تخصيصهم هذه الصفات الثمان دون غيرها بالإثبات تخصيص من غير مخصص، ولا دليل عليه من العقل ولا من النقل.

بل إن الدليل النقلي والعقلي قد دل على اتصافه تعالى بهذه الصفات وغيرها، فالشرع قد أثبت صفات أخرى غير تلك الصفات الثمان، فما الموجب لعدم إثباتها؟ فإن قالوا: إن إثبات الصفة لابد له من دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، ولم يقم لدينا دليل عقلي على غير ما أثبتناه من الصفات (٣).

قيل لهم: "إن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفاً على أن يقوم عليه دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى، وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا.


(١) ((تبصرة الأدلة)) (ل ١١٣)، وانظر: ((التمهيد)) (ص ٩، ١٢، ٢١)، ((النور اللامع)) (ل ٣٧) ((المسايرة)) (ص ٦٧).
(٢) ((تبصرة الأدلة)) (ل ١١٣، ١١٤)، وانظر: ((التوحيد))، للماتريدي: (ص ٤٥)، ((تأويلات أهل السنة)) (ل ٢٤، ٧٧، ٧٨)، ((الظاهرية))، ((التمهيد)) (ص ١٢، ٢١)، ((تفسير النسفي)) (١/ ٨٦، ٢٠٠)، ((النور اللامع)) (ل ٣٧، ٣٨، ٤١)، ((المسايرة)) (ص ٥٨ - ٦٥)، ((بيان الاعتقاد)) (ل ٨).
(٣) انظر: ((شرح المقاصد)) (٢/ ١٠٦)، حيث رد التفتازاني على من زعم أنه لا صفة لله غير السبعة التي أثبتتها الأشاعرة، ورده في الحقيقة رد عليه وعلى الماتريدية والأشاعرة حيث لم يثبتوا جميع الصفات.

<<  <  ج: ص:  >  >>