للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمناً بالرسول، ولا متلقياً عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه ومالم يخبر به إن علمه بعقله آمن به وإلا فلا. فلا فرق عند من سلك هذه السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق" (١).

ثم يقال لهم: لم أثبتم له تعالى إرادة، وأنه مريد حقيقة، ونفيتم حقيقة الحب والرحمة ونحو ذلك.

فإن قالوا: لأن إثبات هذا تشبيه.

قيل لهم: وكذلك يقول لكم منازعكم في الإرادة. ويقول لكم أهل الإثبات: لابد لكم أن تأتوا في الدلالة على ما أثبتموه من الصفات بالعقل بقياس شمولي أو قياس تمثيلي. فتقولون في الشمولي كل فعل متقن محكم فإنه يدل على علم فاعله وقدرته وإرادته وهذه المخلوقات كذلك فهي دالة على علم الرب تعالى وقدرته ومشيئته، وتقولون في التمثيلي: الفعل المحكم المتقن يدل على علم فاعله وقدرته في الشاهد، فكان دليلاً في الغائب، والدلالة العقلية لا تختلف شاهداً وغائباً فلا يمكنكم أن تثبتوا له سبحانه بالعقل صفة أو فعلاً إلا بالقياس المتضمن قضية كلية، إما لفظاً كما في قياس الشمول، وإما معنى كما في قياس التمثيل فإذا كنتم لا يمكنكم إثبات الصانع ولا صفاته إلا بالقياس الذي لابد فيه من إثبات قدر مشترك بين المقيس والمقيس عليه، وبين أفراد القضية الكلية، ولم يكن هذا عندكم تشبيهاً ممتنعاً، فكيف تنكرون معاني ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وحقائقه بزعمكم أنه يتضمن تشبيهاً (٢).

فإن قالوا: الإرادة التي نثبتها لله ليست مثل إرادة المخلوقين، كما أن قد اتفقنا وسائر المسلمين على أنه حي، عليم، قدير، وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين.

قال لكم أهل الإثبات: كذلك الرحمة والمحبة التي نثبتها لله ليست مثل رحمة المخلوق، ومحبة المخلوق.

فإن قالوا: لا نعقل من الرحمة والمحبة إلا هذا. قال لكم النفاة: ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا (٣).

فإن قالوا: إنا نثبت تلك الصفات بالعقل.

قال لكم أهل الإثبات: لكم جوابان:

أحدهما: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وعلى فرض أن ما سلكتم من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، والنافي لابد أن يأتي بديل كالمثبت سواء بسواء، وليس لكم أن تنفوا شيئاً من الصفات بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم. الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتم به تلك الصفات من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم، يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته تدل على حكمته البالغة (٤).


(١) ((شرح الأصفهانية)) (ص ٣٠، ٣١)، ط مخلوف.
(٢) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (٢/ ١١٩، ١٢٠)، بتصرف، وانظر: ((منهاج السنة)) (٢/ ١١٥).
(٣) ((شرح الأصفهانية)) (ص ٢٧، ٢٨)، بتصرف.
(٤) ((الفتاوى)) (٣/ ١٩)، بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>