للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكل هذه الطرق الثلاث التي استدلت بها الماتريدية على اتصاف الباري بالحياة الصحيحة مستقيمة. بل هي بديهية ضرورية، إذ أن معرفة اتصاف الخالق بالحياة أمر ضروري مستقر في الفطر، لا يجحده إلا مكابر ملحد. قال شيخ الإسلام في تعليقه على قول الأصفاني: (والدليل على أنه حي علمه وقدرته، لاستحالة قيام العلم والقدرة بغير الحي): "فهذا دليل مشهور للنظار، يقولون: قد علم أن من شرط العلم والقدرة الحياة، فإن ما ليس بحي يمتنع أن يكون عالماً، إذ الميت لا يكون عالماً، والعلم بهذا ضروري" (١).فلذلك اضطر ابن رشد الفيلسوف إلى الاعتراف بصحة هذا الدليل حيث قال: "وأما صفة الحياة فظاهر وجودها من صفة العلم، وذلك أنه يظهر في الشاهد أن من شرط العلم الحياة. والشرط عند المتكلمين يجب أن ينتقل فيه الحكم من الشاهد إلى الغائب، ما قالوه في ذلك صواب" (٢).

المصدر:الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص٢٥٤

الإرادة

أثبتت الماتريدية الإرادة لله عز وجل بدليل أن الله تعالى قد خلق الخلق باختياره، ولا اختيار بدون إرادة، كما أنه لا اختيار بدون قدرة. وأيضاً اختصاص المفعول بوجه دون وجه، وبوقت دون وقت، دليل على اتصاف الفاعل بالإرادة، إذ هي المعنى الذي يوجب التخصيص. وكذلك استدلوا بدليل التنزيه إذ أن الخالق لو لم يكن مريداً لكان عاجزاً. قال الماتريدي: "إن شرط كل من فعله اختيار الإرادة، وكل من فعله الاضطرار أنه غير مريد ... " (٣).وقال: "ثم الأصل الذي يقع عليه الفعل في الشاهد أن يكون على إرادة أو غلبة أو سهو، فكل من خرج في شيء عن الوصف بالغلبة فيه والسهو لزم الوصف بالإرادة التي هي الأفعال ... " (٤).

كما أن التخصيص في المفعولات يدل على اتصاف الفاعل بالإرادة دلالة بديهية، إذ لا تخصيص بلا إرادة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه على قول الأصفهاني: (والدليل على إرادته تخصيصه الأشياء بخصوصيات، واستحالة المخصص من غير مخصص): "فإن هذا دليل مشهور للنظار، ويقرر هنا: إن العالم فيه تخصيصات كثيرة، مثل تخصيص كل شيء بما له من القدر، والصفات، والحركات كطوله وقصره، وطعمه ولونه وريحه وحياته وقدرته وعلمه وسمعه وبصره وسائر ما فيه، مع العلم الضروري بأنه من الممكن أن يكون خلاف ذلك، إذ ليس واجب الوجود بنفسه. ومعلوم أن الذات المجردة التي لا إرادة لها لا تخصص، وإنما يكون التخصيص بالإرادة" (٥).

وثبوت الإرادة بدليل التنزيه أمر مدرك ببداهة العقول، إذ أنه من الضروريات. بل إن معرفة اتصاف الله تعالى بصفة الإرادة أمر لا يحتاج لإقامة الأدلة العقلية المنطقية عليه، إذ أنه يدرك بالفطرة والضرورة. ولا يجحد هذا إلا مختوم على قلبه، أو فاقد لعقله.

المصدر:الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص٢٥٧

السمع والبصر


(١) ((شرح الأصفهانية)) ت السعوي (ص ٣٩٥)، وانظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (١/ ١٣١، ١٣٢).
(٢) ((مناهج الأدلة))، ت محمود قاسم (ص ١٦١، ١٦٢)، وط دار الآفاق (ص ٧١).
(٣) ((التوحيد)) (ص ٢٩٣).
(٤) ((التوحيد)) (ص ٣٠٥)، وانظر: (ص ٤٤، ٤٥، ٦٠).
(٥) ((شرح الأصفهانية)) (ص ٣٩٥)، وانظر: ((الفتاوى)) (٣/ ١٨، ١٦/ ٣٥٤)، ((لوامع الأنوار البهية)) (١/ ١٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>