للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هكذا كابروا العقل والنقل، ولذلك يقول في أمثالهم شيخُ الإسلام ذلك الإمام البعيد النظر الثاقب الفكر الذي كشف الأستار عن كثير من أسرار المتكلمين وأخرج خباياهم من زواياهم:"وإثبات إرادة واحدة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل بل هو مخالف للشرع والعقل فإنه ليس في الكتاب والسنة ما يقتضى أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه" (١).

وهو كلام الله تعالى المسموع بحرف وصوت وهو لم يزل ولا يزال متكلماً.

ثانياً: أنهم قالوا صراحةً- دون حياءٍ- جهاراً دون إسرار- بخلق القرآن فسايروا الجهمية الأولى وشيوخهم المعتزلة، وفارقوا أهل السنة.

ثالثاً: أنهم لم يكتفوا بهذين- التعطيل والإلحاد- بل زادوا بدعةً أخرى على بدعة الجهمية الأولى والمعتزلة، ألا وهي "بدعة الكلام النفسي" الذي لم يعرفه الأولون والآخرون من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين وأئمة هذا الدين قبل ابن كلاب (٢٤٠هـ) ولا يقره عقل صريح ولا نقل صحيح ولا فطرة سليمة ولا إجماع في آن واحد.

٤ - الماتريدية تظاهروا بإثبات الصفات الفعلية- الصفات الاختيارية- والحقيقة أنهم لا يثبتون الصفات الفعلية ولا يقولون بقيامها بالله تعالى ومعلوم أن الصفة لا تكون صفةً إلا إذا قامت بالموصوف واتصف الموصوف بها، وإلا لزم أن تكون صفاتٌ لعمرو صفاتٍ لزيد، وهذا قلب الحقائق ومكابرة بداهة العقل السليم الصريح والنقل الصحيح.

وهذه حقيقة اعترفوا بها في صدد احتجاجهم على المعتزلة فقالوا: "ومعلوم أن كلاً من ذلك يدل على معنى زائد على مفهوم الواجب. وليس الكل ألفاظاً مترادفة، وأن صدق المشتق على الشيء يقتضي ثبوت مأخذ الاشتقاق له فثبت له صفة العلم، والقدرة،، والحياة وغير ذلك، لا كما يزعم المعتزلة: أنه عالم لا علم له، وقادر لا قدرة له إلى غير ذلك، فإنه محال ظاهر بمنزلة قولنا: أسود لا سواد له، وقد نطقت النصوص بثبوت علمه، وقدرته، وغيرهما ... "؛وقالوا: "ولا معنى له سوى أنه متصف بالكلام" (٢).

ومعلوم أيضاً أنهم أرجعوا جميع الصفات الفعلية إلى صفة التكوين، وأن جميع الصفات الفعلية ليست صفاتٍ حقيقةً لله تعالى، وإنما هي من متعلقات صفة التكوين، والتكوين صفة أزلية وهي عندهم: مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود.

فلا شك أن ما يزعمون من صفة التكوين ليس إلا مجموع صتفي "القدرة والإرادة"، ولا شيء غير ذلك، وأنه لا خلاف في الحقيقة بين الماتريدية وبين الأشعرية فكل متفقون على نفي الصفات الفعلية، ونفي قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى، حذراً عن تعدد القدماء، وفراراً عن حلول الحوادث بذاته تعالى في زعمهم كما تقدم ذلك في المسائل الخلافية بين الفريقين.

٥ - الماتريدية خالفوا طريقة الكتاب والسنة، ونابذوا منهج سلف هذه الأمة، وعاكسوا أئمة السنة في باب الصفات السلبية، فأجملوا في الإثبات وفصلوا في النفي المحض ولذلك نرى الإثبات عندهم قليلاً. والنفي كثيراً، فعامة توحيدهم سلوب خالصة اقتداءً بشيوخهم المعتزلة، الثبوتية الذاتية التي هي من أعظم صفات الله تعالى الدالة على كماله سبحانه وتعالى، كصفة "العلو" لله سبحانه وتعالى، فيفسرون هذه الصفة العظيمة بالسلوب فيقولون: "المراد تعاليه عن الأمكنة، والمراد علو القهر، والتنزيه، وتعاليه عن كل موهوم، وتعاليه عن الأشباه، والأنداد، والصفات التي لا تليق به.


(١) ((درء التعارض)) (٨/ ٢٨٣).
(٢) ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص ٤٤، ٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>