والسلوب قد أشربوها في قلوبهم، وتوحيد السلوب قد شغفهم حباً إلى حد قالوا: "إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به، ولا منفصل عنه، ولا فوق العرش، ولا يمين، ولا شمال، ولا أمام، ولا خلف، فقالوا بما لا يقره عقل صريح ولا نقل صحيح، ولا فطرة سليمة، ولا إجماع، وأرادوا الفرار من التشبيه وقصدوا التنزه، فنزهوا الله تعالى عن كثير من صفاته الكمالية، ووقعوا في أبشع التشبيه وأشنعه وهو تشبيه الله تعالى بالحيوانات، بل بالجمادات، بل بالمعدومات، بل بالممتنعات، وقالوا: إن الله تعالى لا كلام له، ولا يتكلم ولا يناجي، ولا ينادي - بالمعنى الذي دل عليه الكتاب والسنة وفهمه سلف الأمة وأئمة السنة، ولا له يد، ولا يدان، ولا أصابع، ولا قبضة، ولا وجه، ولا عين، ولا ساق ولا قدم، ولا رجل، وأولوها إلى المعاني الأخرى.
الناحية الثانية: حول ما أصلوه في "التشبيه والتنزيه" وما نتج من ذلك من إلحادٍ وتعطيل كثيرٍ من صفات الله تعالى وتحريف نصوصها.
الماتريدية لما فهموا من صفات الله تعالى تشبيه الله بخلقه ورأوا أن ذلك يخالف تنزيهه تعالى، وأدخلوا في مفهوم التشبيه كثيراً من صفات الله، كما أدرجوا في التنزيه نفي كثير منها - كما تقدم تفصيله في مبحث التشبيه دخل عليهم الإلحادُ في أسمائه وصفاته سبحانه والتعطيلُ لكثير من صفات الله تعالى وتحريف نصوصها بشتى التأويلات.
وفيما يلي بعض الأمثلة الواقعية من نصوصهم في كتبهم لتكون شاهدة لما قلنا ويكون القراء الكرام على بصيرة من أمر هؤلاء.
المثال الأول: أنهم تظاهروا بإثبات "الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة" لله ولكنهم تفلسفوا فيها فأخرجوها عما كانت عليه في العقل والنقل. المثال الثاني: أرجع بعضهم كالإمام ابن الهمام (٨٦١هـ) صفتي "السمع والبصر" إلى صفة "العلم" وهذا تعطيل واضح، وللعلامة محمد أنور شاه الكشميري أحد كبار أئمة الديوبندية (١٣٥٢هـ) تفلسف آخر في معاني الصفتين "السمع والبصر" لا نطيل المقام بذكره (١).
المثال الثالث: تظاهر الماتريدية بإثبات الصفات الفعلية، ولكن الحقيقة أنها ليست صفاتٍ حقيقية قائمةً بالله تعالى - عندهم - وهذا تعطيل صريح.
المثال الرابع: توسعوا وبالغوا وأسرفوا في السلوب وفصلوا فيها فأدخلوا فيها كثيراً من الصفات الذاتية الثبوتية، ونابذوا طريق الكتاب والسنة وعاكسوا سلف هذه الأئمة، وشاقوا أئمة السنة.
المثال الخامس: عاملوا صفة "العلو" لله على خلقه - معاملةً كابروا بها صريح العقل وصحيح النقل وسليم الفطرة وواقع إجماع بني آدم من أولهم إلى آخرهم مسلمهم وكافرهم عربهم وعجمهم رجالهم ونسائهم.
فعطلوا هذه الصفة العظيمة بأنواع من التحريفات، وقالوا: إن الله لا فوق، ولا تحت ولا خلف، ولا أمام ولا يمين، ولاشمال، ولا فوق العالم، ولا تحته، ولا خارج العالم، ولا داخله، إلى آخر ذلك الهذيان.
المثال السادس: فعلوا في صفة "الكلام" ما لا يقره عقل ولا نقل ولا فطرة كفعلهم في صفة "العلو".
(١) ((انظر فيض الباري)) (٤/ ٥١٦ - ٥١٧).