أما الأشعرية فانتشرت في العراق والشام ومصر والمغرب وغيرها من البلاد بسبب انتشار متأخري الشافعية والمالكية وقوة سلطانهم وسيفهم وسنانهم. فقد ذكرنا أن ابن تومرت أجبر الناس في المغرب وحملهم على العقيدة الجهمية التي نسبها إلى الأشعري زورا بسفك الدماء وهتك الأعراض، وفعل ما فعل من الأباطيل والأفاعيل الشنيعة الفظيعة.
أما في العراق والشام ومصر، فلم تكن العقيدة الأشعرية معروفة إلا في آخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس، فظهرت في العراق في نحو سنة (٣٨٠هـ) وانتقلت إلى الشام فمصر بسبب الدولة الأيوبية حيث حملوا كافة الناس عليها، فتمادى الحال على ذلك في أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام الأتراك من مواليهم.
ثالثا: من الناحية الفكرية:
وفيها وقفات ثلاث:
الوقفة الأولى: في نوعية هذا الخلاف:
اختلفت أفكار الماتريدية وأنظار الأشعرية في مسائل، وقد تقدم أن هذا الخلاف غير جوهري بل في التفاريع دون الأصول، وأن هذا الخلاف جله لفظي إن لم نقل كله، وأنه لا يستدعي التبديع والتفسيق فيما بينهم، وكان بينهم في أول الأمر تباين وتنافر ثم آل الأمر في الأخير إلى الإغضاء.
الوقفة الثانية: في عدد تلك المسائل الخلافية:
ذكر تاج الدين السبكي (٧٧١هـ) عن والده تقي الدين السبكي (٧٥٦هـ) أن تلك المسائل ثلاث، ثم ذكر أنها ثلاث عشرة مسألة: ست فيها خلاف معنوي، وأما السبع الباقية ففيها خلاف لفظي. ومشى على ذلك أبو عذبة وأقره الزبيدي، وهذا يوافق ما ذكره المقريزي.
ويرى عبد الرحيم شيخ زاده: أنها أربعون مسألة ثم ساقها.
وأوصلها كمال الدين البياضي إلى خمسين مسألة ثم ذكرها، وساق الزبيدي نصه أيضا.
والذي يبدو لي، أنه لا منافاة بين ما ذكره التاج السبكي وأبو عذبة وغيرهما وبين ما ذكره الباقون فالأولون أجملوا والآخرون فصلوا. وها أنا أسوق تلك المسائل حسب ما ذكره السبكي وأبو عذبة إن شاء الله تعالى.
الوقفة الثالثة: في بيان المسائل الخلافية بين الفريقين:
ذكرت آنفا خلاف العلماء في عدد المسائل الخلافية بين الماتريدية وبين الأشعرية واخترت ما ذكره السبكي وأبو عذبة من أن هذه المسائل ثلاث عشرة مسألة؛ لأنه قول وسط وأشهر، فأعرض هذه المسائل عرضا أمام القراء كالفهرس مع تعليقات مختصرة لبيان الحق دون مناقشة الفريقين تفصيلا، لأن المقصود ها هنا تعريف الماتريدية بما بينهم وبين الأشعرية من الخلاف فقط، أما الحديث عن هذه المسائل تفصيلا وبيان الحق فيها بالأدلة، ومناقشة الفريقين فيحتاج إلى بحث خاص ولعل الله تعالى يوفق من شاء من عباده فيقوم بهذا العمل؛ فأقول - وبالله التوفيق -.
المسائل الخلافية بين الفريقين - كما ذكره السبكي وأبو عذبة - ثلاث عشرة مسألة، وهي على نوعين: نوع فيه خلاف معنوي، ونوع فيه خلاف لفظي.
أما النوع الأول فست مسائل:
المسألة الأولى:
هل يجوز عقلا أن يعذب الله تعالى المطيع أم لا؟ فالأشعرية يجوزون ذلك، والماتريدية لا يجوزونه.
قلت: قول الأشعرية باطل محض عقلا ونقلا، والحق أن الله تعالى لا يعذب المطيع.
أما عقلا؛ فلأنه يستلزم وصفه تعالى بالجور كما أنه مناف لحكمته تعالى؛ لأنه سفه محض.
وأما نقلا: فلقوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:٣٥ - ٣٦].