وهذا الدليل النقلي عقلي أيضا؛ لأنه لا يجوز عقلا التسوية بين المختلفين كما لا يجوز التفريق بين المتماثلين. قال ابن القيم: " هو تعالى المحسن البر الرحيم الملك العدل الحكيم فلا تناقض حكمته رحمته بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا العكس، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: إن الأمرين إليه تعالى سواء، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة والقرآن كفيل بالرد على هذه المقالة" (١).
المسألة الثانية: هل معرفة الله واجبة بالشرع أم بالعقل؟
قلت: ها هنا مسألتان:
١ - الأولى: حصول معرفة الله بالعقل.
٢ - الثانية: وجوب معرفة الله بالعقل شرعا ينوط به التكليف ويترتب عليه الثواب والعقاب.
فالمسألة الأولى: لم يختلف فيها الماتريدية والأشعرية، لأن معرفة الله تعالى أمر فطري وعقلي في الجملة، وشرعي في التفصيل كما سيأتي قريبا - إن شاء الله -.
وأما المسألة الثانية: فاختلف فيها الأشعرية والماتريدية.
فقالت الأشعرية: معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل.
وقالت الماتريدية: معرفة الله واجبة بالعقل ولو لم يكن الشرع.
وهو مذهب جمهور المعتزلة، حتى صرح أبو منصور الماتريدي، وكثير من مشايخ العراق من الحنفية بأنه يجب على صبي عاقل معرفة الله وإن لم يبلغ الحنث.
واختار أئمة بخارى من الحنفية مذهب الأشعرية فقالوا: لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل البعثة.
وصورة الخلاف وثمرته تظهران فيمن نشأ على شاهق جبل ولم تبلغه الدعوة، ولم يؤمن بالله ومات فهو غير معذب عند الأشعرية ومعذب عند الماتريدية.
قلت: قول الأشعرية - ها هنا - صواب ولكنهم ناقضوا أنفسهم في جعل العقول الفاسدة مصدرا لتلقي العقيدة وتقديمها على النصوص الشرعية في كثير من أبواب الصفات وغيرها.
وأما قول الماتريدية - فباطل، وسلفهم في ذلك المعتزلة، فأي عقل رشحوه حتى قدسوه إلى هذا الحد.
والحق: أن الوجوب الشرعي لمعرفة الله تعالى بالشرع لا بالعقل. فالعقل وحده - وإن كان مدركا لمعرفة الله - غير كاف في الوجوب: لأنه لا تتم الحجة على العبد بمجرد عقله ما لم يبلغه الشرع؛ وهذا من كمال رحمة الله، ووافر فضله، ونهاية عدله، ومقتضى حكمته سبحانه وتعالى.
غير أن العقل شرط في صحة التكليف؛ لا موجب له، فالعقل لا يطرح بالكلية، ولا يستقل بالكلية. والشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين والعقل عاضد له ومعاون. بل نفس معرفة الله تعالى أمر فطري جبلي فطر الله الناس عليه، لا ينحرف عنه إلا من فسدت فطرته، غير أن الذي يدرك بالعقل ومركوز في الفطرة هو معرفة الله الإجمالية؛ أما معرفة الله التفصيلية بأسمائه وصفاته فلا تحصل إلا بالشرع.
فالفطرة لها وظيفة، والعقل له وظيفة، وللشرع وظيفة، فالفطرة قابلة للحق والعقل مزك، والشرع مبصر مفصل لما هو مركوز في الفطرة.
قلت: ومن وظيفة الشرع أن الله تعالى أوجب به معرفته على العبد، وبه مناط التكليف، وعليه يترتب العقاب والثواب، وبذلك تتم حجة الله على عباده. وهذا الذي ذكرته هو مذهب أهل السنة والجماعة، وعليه كبار أئمة السنة فما ذكره الإمام ابن القيم من وجوبها بهما ففيه نظر.
ومن الأدلة الواضحة الناصعة القاطعة الساطعة على ذلك. .
قوله تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: ١٦٥].
وقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:١٥].
(١) ((بدائع الفوائد)) (٢/ ٤٣٧).