قلت: الفريقان على باطل محض، سواء جعل الخلاف معنويا أم لفظيا؛ لأن الدافع لهم جميعا على ما قالوه - الفرار عن القول بقيام الصفات الاختيارية به تعالى، وهو ما يسمونه بحلول الحوادث، فلذا قالت الماتريدية: إن صفة التكوين أزلية، وإن الصفات الفعلية ليست - في الحقيقة - صفات لله تعالى، بل هي من متعلقات صفة التكوين لئلا يلزم حلول الحوادث به تعالى وليست قديمة حتى لا يلزم كثرة القدماء جدا.
وأما الأشعرية، فقالوا بنفي التكوين صفة لله تعالى زائدا على الصفات السبع؛ وقالوا: إن صفات الأفعال ليست صفات لله تعالى، بل هي إضافات واعتبارات، لئلا يقوم بذاته تعالى حادث هذا حاصل مذهب الفريقين.
مع أن القول بحلول الحوادث به تعالى لازم لهم شعروا أم لا حتى باعتراف الرازي فيلسوف الأشعرية.
والقول بحلول الحوادث به تعالى كما هو لازم لجميع الطوائف حتى الفلاسفة، كذلك هو قول أساطين الفلاسفة الأولين وفضلائهم المتأخرين غير واحد، وهو قول طوائف من الشيعة، والمرجئة، والكرامية، وغيرهم.
وأما جمهور أهل السنة والحديث فإنهم يقولون بها، أو بمعناها.
قلت: بهذا القول - أعني نفي قيام الصفات الاختيارية به تعالى - بشبهة أن ذلك يستلزم حلول الحوادث به تعالى - قد عطلت الماتريدية والأشعرية كثيرا من صفات الله تعالى، وناقضوا الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة، وارتكبوا مخالفة العقل الصريح، وأتوا بمفاسد وظلمات، والحق ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن أفعاله تعالى صفات قائمة به تعالى تتعلق بها مشيئته تعالى وقدرته، وتتجدد آحادها، غير أن نوعها قديم.
فإن قيل: يلزم من حدوث الآحاد حدوث النوع، لأن النوع لا يتحقق إلا في ضمن أفراده.
قلنا: لا يلزم من حدوث الأفراد حدوث النوع، ألا ترى أن نعيم الجنة وأكلها وظلها دائم باق لا ينفد؛ مع أن آحادها لا يتحقق فيها هذا الحكم. وهكذا أجزاء البيت والإنسان والشجر لا يطلق عليها حكم البيت والإنسان والشجر، وهكذا أجزاء الطويل والعريض لا يستلزم أن تكون طويلة وعريضة ودائمة فالنوع له أحكام وصفات، والأجزاء والأفراد لها أحكام وصفات. إلا إذا ثبت أن هذه الجملة موصوفة بصفة هذه الأفراد فالنوع وأفراده، والكل وأجزاؤه قد تتفق حكما وقد تختلف، وضابط ذلك: أنه إذا كان بانضمام هذا الفرد إلى هذا الفرد يتغير ذلك الحكم الذي للفرد لم يكن حكم المجموع حكم الأفراد، كما تبين لك في الأمثلة السابقة، من أن حكم الإنسان والبيت والطويل ليس حكم أجزائها، وحكم نعيم الجنة ليس حكم أفراده.
وإن لم يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد كان حكم المجموع حكم أفراده ككون الأفراد معدومة، أو موجودة، أو ممكنة مثلا يستلزم كون المجموع كذلك.
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ينجينا من كثير من الإشكالات الكلامية، كما هو متناسق منسجم مع نصوص الكتاب والسنة ومنهج السلف.
ثم إن تهويل هؤلاء المعطلة بشبهة قيام الحوادث بالله تعالى من جملة تهويلهم بالكلمات المستحدثة الكلامية المجملة التي تحتمل معنى حقا وباطلا، وقاعدة السلف في مثل هذه الحكم عليها نفيا أو إثباتا حتى يعلم مراد قائلها.
الحاصل: أن نوع صفات الله الفعلية قديمة وتتجدد آحادها، دلت عليه نصوص كثيرة، استخرج بعضها الإمام أحمد لإثبات أن الصفات الاختيارية صفات له تعالى قائمة به تحت مشيئته واختياره.
وأذكر مثالا واحدا لذلك من الأمثلة التي استخرجها الإمام أحمد من القرآن للصفات الاختيارية المتجددة، وهو قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: ١].