للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ دليل على ثبوت السمع والبصر المطلقين القديمين له تعالى، وكل واحد منهما نوع لأفراده؛ وقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ، وقوله: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:١] دليل على تجدد أفراد ذلك النوع، وأن هذا السمع الخاص فرد من ذلك السمع المطلق، وإلا فهل يعقل أن الله تعالى سمع قول تلك المرأة، وسمع محاورتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأزل قبل أن يخلقهما، وقبل أن يخلق كلامهما وأصواتهما؟؟؟. ومن قال: إن الله تعالى سمع صوتهما ومحاورتهما بصفة التكوين القديم، وإن هذا السماع الخاص ليس من صفات الله تعالى بل هو من متعلقات التكوين - كما هو زعم الماتريدية - أو من قال: إن هذا السماع الخاص من الإضافات والاعتبارات وليس من صفات الله تعالى - فقد ناقض العقل الصريح والنقل الصحيح وارتكب التعطيل، وكابر وقد ثبت بهذا أن أفعال الله تعالى صفات له قائمة به تعالى تحت مشيئته واختياره، وأن نوعها قديم ,وآحادها تتجدد وأنها لا تستلزم حلول الحوادث به تعالى بالمعنى الذي تريده الجهمية، فلا تغرنك تسمية الجهمية لها بحلول الحوادث بالله تعالى ونحوه من الأسماء المدهشات.

المسألة الرابعة: هل يجوز أن يسمع كلام الله تعالى، أم لا؟

الأشعرية على الجواز، والماتريدية على عدم الجواز.

ويفسر الماتريدي سماع كلام الله بمعنى إعلام الله إيانا للكلام كما أعلمنا قدرته وربوبيته. ومعلوم أن قدرة الله تعالى وربوبيته من المعلومات، لا من المسموعات.

قلت: أما قول الماتريدية - فباطل؛ غير أنه أوفق لمذهبهم في الكلام النفسي - الذي ليس بحرف ولا صوت -؛ لأنه إذا لم يكن بحرف ولا صوت - لا يتصور سماع كلام الله تعالى. فالماتريدية قولهم بدعة مبنية على بدعة وهو القول بالكلام النفسي؛ لأن أول من ابتدع الكلام النفسي - هو ابن كلاب (٢٤٠هـ)، فالأنبياء والمرسلون والصحابة والتابعون والأئمة المتقدمون - لم يعرفوا الكلام النفسي، فقول الماتريدية مخالف لمذهب السلف كافة ولاسيما الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - واكتفى بنص الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - ليكون فيه عبرة للماتريدية. قال الإمام أبو حنيفة: (وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: ١٦٤] (١)).

يا سبحان الله! الإمام أبو حنيفة يصرح بوقوع سماع كلام الله تعالى وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله فعلا فضلا عن الجواز، ويستدل على ذلك بكتاب الله تعالى لكن الماتريدي والماتريدية لا يجوزون سماع كلام الله فضلا عن الوقوع.

بل يصرحون بأن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله تعالى. فيقول أبو المعين النسفي: (إن الله أسمع القرآن جبرائيل بالصوت والحرف المخلوقين فحفظه جبرائيل ونقله إلى النبي صلى الله عليه وسلم) (٢).وقال أبو منصور الماتريدي: " إن الله أسمع موسى عليه السلام كلامه بحروف خلقها وصوت أنشأه " (٣).وقال أبو الليث السمرقندي: (إن الله ألقى في مسامعه صوتا مخلوقا على ما يشاء) (٤).

وقال البياضي: (إن التكليم لا يتوقف على السماع من الله بالذات، وليس في النظم الجليل - يعني قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما - أن الله تعالى أسمع موسى عليه السلام كلامه بحروف وأصوات خلقها في الشجرة).


(١) انظر ((الفقه الأكبر))، بشرح القاري: (٤٦).
(٢) ((بحر الكلام)) (ص ٢٩).
(٣) ((كتاب التوحيد)): (ص٥٩) وهذا أيضا يبطل ما في ((روح الألوسي)): (١/ ١٧).
(٤) ((شرح تأويلات أهل السنة سورة الشورى الآية رقم ٥١))، ونقله البياضي في ((إشارات المرام)): (ص ١٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>