للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: هذان مثلان واضحان ونصان صريحان في عدم جواز تفسير صفة بأخرى، وأن ذلك مذهب المعتزلة، وليس من مذهب أهل السنة في شيء وأنه يجب وصف الله بما وصف به نفسه بلا كيف، وكما أن معنى "القدرة" معروف كذلك معنى "اليد" معروف وهكذا معنى "الغضب" ومعنى "الرضا" معروفان وهما من صفات الله بلا كيف. وهو قول أهل السنة، فبطل التفويض المفتعل المتقول على السلف.

قال شيخ الإسلام: "والله سبحانه وتعالى أخبرنا: أنه عليم قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.

فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم، والقدرة، وبين الرحمة، والسمع، والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها.

فهي متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات".ثم أورد أمثلة متعددة لإيضاح هذا المطلب، كأسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن والسيف،، وحقق أن هذه الأسماء مع تعددها تدل على ذات واحدة من اختلاف معانيها (١).وقال: " ... فإنا نفهم من قوله: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:٧٥] معنى ونفهم من قوله: إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:٦٥] معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله: إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم:٤٧] معنى، وصبيان المسلمين بل وكل عاقل يفهم هذا" (٢).

الوجه الخامس:

أنه من الواقع المحسوس أن الناس إذا سمعوا كلاماً ولا يفهمون معناه، يبادرون إلى السؤال عن معناه ومراد المتكلم ليفهموا معناه ويعرفوا المراد منه، والنفوس تحرص على هذا والقلوب تتطلع إلى المعرفة والإطلاع إلى العلوم، ولاسيما إذا كان الكلام بين الأستاذ وتلامذته، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على حصول الخير والإطلاع على العلوم النافعة التي تتصل بصميم دينهم.

وباب الأسماء الحسنى والصفات العلا من أعظم المعارف الإسلامية وكان الصحابة أحرص الناس على الاستفادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسألونه في أمور جليلها ودقيقها - وكانا خير تلامذة وأصحاب لخير معلم ومرشد - إذا أشكل عليهم شيء في أمر الدين أو صعب عليهم فهم نص من نصوص الوحي.

ومع ذلك لم يثبت عنهم أنهم شكُّوا في صفات الله تعالى أو سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفهم معناها.

بل كانوا يتلقون كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهما نصوص الصفات مع تلك الكثرة الكاثرة.

فهل يَتَصوَّرُ من له أدنى مسكةٍ من عقلٍ صحيحٍ أنهم يتلونها ويرددونها بدون فهم معانيها ومعرفة المراد منها - طيلة حياتهم - ولم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟.

فهذا من البراهين الواضحة على أنهم لم يكونوا مفوضة بالمعنى الذي يعنيه الماتريدية، ولم يكونوا جاهلين بالله وبصفاته تعالى إلى الحد الذي زعمه أهل الكلام عليهم وقولهم التفويض الذي هم منه براء.

بل نقول جزماً لا يحتمل النقيض: أنهم لو لم يفهموا معانيها لبادروا إلى السؤال عنها، ولسابقوا إلى الإطلاع على المراد منها.

نعم قد ورد أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤية الله تعالى، فعن أبي هريرة: ((أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة ... )) الحديث.

وعن أبي سعيد الخدري مثله.

فمثل هذين الحديثين يدلنا دلالة قاطعة على أنهم كانوا يعرفون معاني صفات الله تعالى، ويفهمون المراد من نصوصها، وإلا لبادروا إلى السؤال عنها ليعرفوا المراد كما فعلوا في مسألة الرؤية.


(١) ((التدميرية)) (ص ١٠٠ - ١٠٢)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (٣/ ٥٩).
(٢) ((الإكليل)) (ص ٣٦)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (١/ ١٣٦)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (١٣/ ٢٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>