للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه.

لو قال في قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:٤٦]: كيف يسمع، وكيف يرى؟.

لقلنا: السمع، والرؤيا معلوم، والكيف مجهول. ولو قال: كيف كلم موسى تكليماً؟ لقلنا: التكليم معلوم، والكيف غير معلوم" (١).

قلت: هذا الذي حققه شيخ الإسلام في تفسير المقالة الرَّبَعِيَّة والمالكية حقيقة واقعة، وقد اعترف بها أبو بكر بن العربي (٥٤٣هـ) فقال:٤ - "ومذهب مالك رحمه الله: أن كل حديث منها معلوم المعنى، ولذلك قال للذي سأله: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة ... " (٢).وابن العربي هذا من أئمة الكوثري في المباحث الكلامية ولذا - يثني عليه ثناء عاطراً (٣) فكلامه حجة عليه خاصة وعلى الماتريدية عامة. والعجب من العلامة ملا علي القاري حيث حمل كلام الإمام مالك هذا على التفويض المطلق الباطل فقال: مذهب السلف عدم التأويل، وتفويض الأمر إلى الله وعلمه في المراد به، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، واختاره إمامنا الأعظم (٤).

مع أن كلام الإمام مالك صريح في كون المعنى معلوماً، وإنما المجهول هو الكيف فهو يفوض في الكيف دون المعنى فبطل زعم الماتريدية.

٥ - وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "من قال: لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض - فقد كفر، قال الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:٥].

فإن قال: أقول بهذه الآية ولكن لا أدرى أين العرش؟ في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر أيضاً. ونذكره من أعلى لا من أسفل، لأن الأسفل ليس من الربوبية والألوهية في شيء ... " (٥).

ثم ذكر حديث الجارية مستدلاً به على علو الله تعالى.

قلت: أي عقل يحمل هذا النص الواضح على التفويض المفتعل الباطل مع أن الإمام أبا حنيفة يكفر من قال: لا أعرف الله هل في السماء أم في الأرض؟

بل يكفر من قال: لا أدري أين العرش مع اعتقاده أن الله على العرش.

ثم ذكر الإمام أبو حنيفة ثلاثة دلائل على إثبات علو الله تعالى:

الأول: الدليل الفطري:

وهو أن الله تعالى يدعى من أعلى لا من أسفل فالقلوب مفطورة بالتضرع إليه تعالى وأنه فوق العالم، وترفع الأيدي إليه على أنه فوق عباده.

والثاني: الدليل العقلي:

وهو أن الأسفل ليس وصف الربوبية والألوهية فمقتضى كونه تعالى رباً وإلهاً أنه فوق خلقه أجمعين.

والثالث: الدليل النقلي: وهو قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وحديث الجارية، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أين الله)) وجواب الجارية: ((في السماء)) (٦).ومع ذلك كله نرى الماتريدية ينسبون التفويض المفتعل المتقول الباطل إلى الإمام أبي حنيفة رحمة الله تعالى (٧).

مع أنه من أهل الإثبات، وكلامه صريح في هذا غاية الصراحة وحمله على التفويض المطلق الباطل تحريف محض. نعم أبو حنيفة الإمام كبقية أئمة الإسلام يفوض في الكيف (٨).


(١) ((الإكليل)) (ص ٥٠ - ٥١)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (١٣/ ٣٠٨ - ٣١٠)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (٢/ ٣٢ - ٣٣)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (١/ ١٤٢ - ١٤٣).
(٢) ((عارضة الأحوذي)) (٣/ ١٦٦).
(٣) انظر ((تبديد الظلام)) (ص ٤٨، ٥١، ١٠٩، ١١١، ١١٢، ١١٤، ١٧٣).
(٤) ((ضوء المعالي)) (ص٣١)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص ١٧٢).
(٥) ((الفقه الأبسط بشرح أبي الليث السمرقندي)) (ص ١٧، ٢٠)، و ((الفقه الأبسط بتحقيق الكوثري)) (ص ٤٩ - ٥٢).
(٦) رواه مسلم (٥٣٧)
(٧) انظر ((ضوء المعالي)) (ص ٣١)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص ١٧٢).
(٨) انظر ((الفقه الأكبر بشرح القاري)) (ص ٥٩)، و ((الفقه الأبسط بتحقيق الكوثري)) (ص ٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>