للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سابعا – البعد عن التوبة، واستدراجه في معصيته لقد حجب الله سبحانه التوبة عن صاحب البدعة المفارق للجماعة (١) الخارج عن الصراط المستقيم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حجز - أو قال حجب - التوبة عن كل صاحب بدعة)) (٢).وعن يحيى بن أبي عمرو السيباني (٣) قال: "كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة توبة، وما ينتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منه" (٤).وتصديق ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: ((يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه)) (٥).ولعل بيان سبب حجب التوبة عنه وبعدها منه في قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الافتراق المشهور وذكره لافتراق أمته قال: ((وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) (٦) يقول الإمام الشاطبي رحمه الله شارحا ذلك: "وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى، وصاد عن سبيل الشهوات، فيثقل عليها جدا لأن الحق ثقيل، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع، فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أخرى: وهي أن المبتدع لابد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع، فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك؟ وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به, وهو الدليل الشرعي في الجملة (٧).ثم ما الذي يصده عن الاستمساك بمنهجه، والازدياد من رأيه، وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره، واعتقاداته أوفق وأعلى؟ أفيفيد البرهان مطلبا؟! كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [المدثر:٣١] (٨).وينبغي أن نعلم أن هذه النصوص لا تدل على أن لا توبة أصلا للمبتدع المفارق للجماعة، بل قد يتوب ويرجع إلى السنة والجماعة، وقد وقع، فالعموم في الحديث ليس عموما بإطلاق يقتضي الشمول، بل هو عموم عادي يقتضي الأكثرية (٩).وأغلب من تحجب عنهم التوبة، وتكون بعيدة المنال عنه: من قد أشرب قلبه بهذه البدعة، وأعجب برأيه وفعله، وظن أنه يتقرب بذلك إلى الله، فأخذ يدعو إلى بدعته وفعله، ويوالي ويعادي على ذلك، فهذا بحق يتجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه (١٠).


(١) إن المفارق للجماعة بمعصيته هذه التي تعتبر من البدع هو من ضمن المبتدعة، يقول الشاطبي: "وأما مفارقة الجماعة فبدعتها ظاهرة، لذلك يجازى بالميتة الجاهلية" انظر ((الاعتصام)) (٣٨٥).
(٢) كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص٢١) وفال عنه الألباني "حديث صحيح".
(٣) هو: يحي بن أبي عمرو السيباني أبو زرعة الحمصي، ابن عم الأوزاعي، ذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة ١٤٨هـ. انظر التهذيب (١١/ ٢٦٠).
(٤) انظر كتاب ((ما جاء في البدع)) لمحمد بن وضاح القرطبي (ص١١٧ – ١١٨).
(٥) انظر كتاب ((ما جاء في البدع)) لمحمد بن وضاح القرطبي (ص١١٧ – ١١٨).
(٦) رواه أبو داود (٤٥٩٧) وأحمد (٤/ ١٠٢) (١٦٩٧٩) والطبراني (١٩/ ٣٧٦) (١٦٥٥٤) والحديث سكت عنه أبو داود، والحاكم في المستدرك (٤٤٣) وصححه، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (٥١) حسن صحيح.
(٧) ((الاعتصام)) (ص١٠٠).
(٨) انظر ((الاعتصام)) (ص١٠١) بتصرف.
(٩) انظر ((الاعتصام)) (ص٥٢٦).
(١٠) انظر تفصيل ذلك: ((الاعتصام)) للشاطبي (ص١٠٠، ٥٢٣ - ٥٣٤)، وانظر ما سيأتي (ص٢٤٦) هامش (٣) معنى الكلب.

<<  <  ج: ص:  >  >>