وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض» ، فقال العلماء: معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الّذي بعده، وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة، حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرّموا ذا الحجة لموافقة الحساب الّذي ذكرناه، فأخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن الاستدارة قد صادفت ما حكم اللَّه تعالى به يوم خلق السموات والأرض. وقال أبو عبيد: كانوا ينسئون أي يؤخرون، وهو الّذي قال اللَّه تعالى فيه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفر في سنة أخرى، فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه. قوله: «ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم.. إلى آخره» ، هذا السؤال، والسكوت، والتفسير، أراد به التفخيم، والتقرير، والتنبيه على عظم مرتبه هذا الشهر، والبلد، واليوم، وقولهم: «اللَّه ورسوله أعلم» ، هذا من حسن أدبهم، وأنهم علموا أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون. قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» . المراد بهذا كله بيان توكيد غليظ تحريم الأموال والدماء، والأعراض، والتحذير من ذلك. قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، قيل في معناه سبعة أقوال: [١] أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق. [٢] المراد كفر النعمة، وحق الإسلام. [٣] أنه يقرب من الكفر، ويؤدي إليه. [٤] أنه فعل كفعل الكفار. [٥] المراد حقيقة الكفر، ومعناه: لا تكفروا، ودوموا مسلمين. [٦] حكاه الخطابي وغيره، أن المراد بالكفار: المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفّر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الأزهري في كتاب (تهذيب اللغة) : يقال للابس السلاح كافر. [٧] قال القاضي عياض رحمه اللَّه: ثم إن الرواية «يضرب» برفع الباء، هكذا هو الصواب، وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا. ونقل القاضي عياض رحمه اللَّه، أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء. قال القاضي: وهو إحالة للمعنى، والصواب الضم، قال الإمام النووي: وكذا قال أبو البقاء العكبريّ: إنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر، أي إن ترجعوا يضرب، واللَّه تعالى أعلم.