ثم حلب ثانيا بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، ثم ارتحلوا عنها، فقال: ما لبثت إذ جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا، مخّهنّ قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب حائل، ولا حلوبة في البيت، قالت: لا واللَّه، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، فقال: صفيه لي يا أمّ معبد، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطح، وفي لحيته كثافة، أزجّ أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نذر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم تحدّرن، ربعة، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، هو انظر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد. قال أبو معبد: هو واللَّه صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. فأصبح صوت بمكة عاليا، يسمعون ولا يدرون من صاحبه: جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد هما نزلا بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيال قصيّ ما زوى اللَّه عنهم ... به من فعال لا تجازي وسؤدد ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... عليه صريحا صرة الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب ... يردد في مصدر ثم مورد فلما سمع حسّان بن ثابت الأنصاري الهاتف، شبّ يجاوب الهاتف وهو يقول: لقد خاب قوم زال عنهم نبيّهم ... وقدّس من يسري إليه ويغتدي ترحّل عن قوم فضلّت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدد هداهم بعد الضلالة ربّهم ... فأرشدهم، ومن يتبع الحق يرشد وهل يستوي ضلّال قوم تسفّهوا ... عمايتهم، هاد به كل مهتدي وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلّت عليهم بأسعد نبي يرى ما يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كلّ مسجد وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد ليهن أبا بكر سعادة جدّه ... بصحبته، من يسعد اللَّه يسعد ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد والأبيات باختلاف يسير في (ديوان حسان) ص ٣٧٦- ٣٧٧.