قال العلامة ابن القيم: وفي تأثير الرقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سرّ بديع، فإن ذوات أثّرت بكيفيات نفوسها الخبيثة ... وسلاحها حماتها اللتي تلدغ بها، وهي لا تلدغ حتى تغضب، فإذا غضبت، ثار فيها السم، فتقذفه بآلتها، وقد جعل اللَّه سبحانه لكل داء دواء، ولكل شيء ضدا، ونفس الراقي تفعل في نفس المرقى، فيقع في نفسيهما فعل وانفعال، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء، فيدفعه بإذن اللَّه. ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانيّ، والطبيعي، وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرقية، والذكر والدعاء، فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق، والهواء والنفس، كانت أتم تأثيرا وأقوى فعلا ونفوذا، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة، شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية. وبالجملة: فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيد بكيفية نفسه وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى، كانت الرقية أتمّ، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها. وفي النفث سر آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا يفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان، قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ، وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة، وترسل أنفاسها سهاما لها، وتمدها بالنفث والتفل الّذي معه شيء من الريق، مصاحب لكيفية مؤثرة. والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفث على العقدة وتعقدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة، فتقابلها الروح الزكية الطيبة، بكيفية الدفع والتكلم بالرقية، وتستعين بالنفث، فأيهما قوى كان الحكم له، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتها وآلتها من جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصل في المحاربة، والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها. ولكن من غلب عليه الحسّ لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحسّ عليه، وبعده عن عالم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها. والمقصود: أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة واستعانت بالنفث والتفل، قابلت ذلك الأثر الّذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته، واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : ٤/ ١٧٨- ١٨٠.