ومعلوم أن من كان بهذه المنزلة، وهو مع ذلك قد انتصب لدعوة الناس إلى دينه، لم يجز بوجه من الوجوه أن يقول للناس: ائتوا بسورة من مثل ما جئتكم به من القرآن، ولن تستطيعوا أن تأتوا بذلك، فإن أتيتم به فأنا كاذب، وهو يعلم من نفسه أن القرآن لم ينزل عليه، ولا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه، وأنه إن عارضه أحد بطلت دعوته.
فكان هذا دليل قاطع، على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يقل للعرب: ائتوا بمثله إن استطعتموه، ولن تستطيعوه، إلا وهو واثق متحقق أنهم لا يستطيعونه، ولا يجوز أن يكون هذا اليقين وقع له إلا من قبل ربه الّذي أوحى إليه به، حتى إنه وثق بخبره، ويؤيد ذلك
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لهم: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وطالت النظرة والمهلة لهم في ذلك، ووقائعه لهم تتواتر، ومحاربته لهم لا تزال: فيقتل صناديدهم، ويسبى ذراريهم، ونساءهم، ويأخذ أموالهم بالقوة، فلم يتعرض أحد لمعارضته، ولو قدروا عليها، لافتدوا بها أنفسهم، وأولادهم، وأهاليهم، وأموالهم، ولكان الأمر في ذلك قريبا سهلا عليهم، إذ هم أهل اللسن، والفصاحة، والشعر، والخطابة.
فلما لم يأتوا بذلك، ولا ادعوه صح أنهم كانوا عاجزين عنه، وفي ظهور عجزهم بيان أنه في العجز مثلهم، إذ كان بشرا مثلهم، لسانه لسانهم وعاداته عاداتهم، وطباعه طباعهم، وزمانه زمانهم، وإذ كان كذلك، وقد جاء بالقرآن، وجب القطع بأنه من عند اللَّه تعالى، لا من عنده صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فإن أورد ملحد أسجاع مسيلمة، قيل له: إنما كان الّذي جاء به مسيلمة، لا [يعدو] أن يكون إلا مجالا، أو سرقة، أو كأسجاع الكهان، وأراجيز العرب، وقد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما هو أحسن لفظا، وأقوم معنى، وأبين فائدة، من أسجاع مسيلمة، ومع ذلك فلم تقل له العرب: يا محمد، أما أنت تتحدانا على الإتيان بمثل [القرآن] ، وتزعم أن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لم يقدروا عليه، ثم قد جئت بمثله، فما هو إلا مفترى، إنه ليس من عند اللَّه، وذلك