للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كل من تكلم في هذا الباب أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ (١) ] .

فلم يدع صلّى اللَّه عليه وسلّم حسنا إلا أمر به، ولا قبيحا إلا نهى عنه، وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم التعريف، وكشف الأمر وأوضحه، ولم يدع بابا من العلم للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلا إلا بينه وشرحه، حتى هدى اللَّه- تعالى- به القلوب من ضلالها، وشفاها من أسقامها، وأغاثها من جهلها، فأى بشر أحق بأن يحمد منه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (٢) ] .

فإن أتباعه نالوا برسالته كرامة الدنيا والآخرة، وأعداءه الذين حاربوه عجل قتلهم وموتهم، فكان خيرا لهم من حياتهم، لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة إذ كتب عليهم الشقاء، فموتهم إذا خير لهم من حياتهم، وطول أعمارهم في الكفر، وعاش المتعاهدون في الدنيا تحت ظله وفي ذمته، وحصل للمنافقين بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وبقاء أموالهم وأهليهم بأيديهم، وجريان أحكام الإسلام عليهم في توارثهم وغيرها.

ودفع اللَّه- تعالى- برسالته العذاب العام على أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته، وكان رحمة عمت الجميع وخصت المؤمنين الذين قبلوا هذه الرحمة وانتفعوا بها دنيا وآخرة، وكانت الكفار الذين ردوها ولم يقبلوها كالدواء الّذي فيه دواء للمريض، لكنه لم يستعجله، فلم يخرجه عدم استعمال المريض له عن كونه دواء.

ومما يحمد عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما جبله اللَّه- تعالى- عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فمن نظر في أخلافه وشيمه علم أنها خير أخلاق، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أعلم الخلق وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالا وأعظمهم عفوا ومغفرة، فكان لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، وكان أرحم الخلق وأرأفهم، وأعظم الخلق نفعا له في دينهم ودنياهم، وأفصح


[ (١) ] العنكبوت: ٥١.
[ (٢) ] الأنبياء: ١٠٧.